» » أسمـــاك الزعـيــم- بقلم الكاتب- عادل المعموري

كنا أكثر من خمسين عاملا.. تنأى بنا المسافات ،والأيام تختار لنا في كل مرة منفى جديدا ،نصل إلى مكان عملنا في السابعة صباحا ،ندخلُ من باب التفتيش ،بعد الفحص والتنقيب في جيوبنا وملابسنا وإبراز هوياتنا،يدخلنا الحارس الضخم عبر البوابة ليستلمنا أربعة من العسكريين نسير على طريق مهجوسة.. طريق تزفر خوفا ورعبا ،مشاعر مختلطة تطوقنا ،أسوار ملغومة تذكرنا كي لا ننسى أن الحياة في هذا المكان تشبه فم ثعبان هائل مستعد لالتهامنا في أية لحظة ،يتم اقتيادنا نحو مكان كبير مخصص لتربية الأسماك ،المكان محاط بالأشجار من كل جانب وعبر ذؤاباتها نلمح الأسلاك الشائكة ونقاط الحراسة المشدّدة ،المكان يحوي مجموعة من الأحواض الكبيرة بعضها دائري الشكل والبعض الآخر بشكل مستطيل ،
على كل حوض ثمانية من الحراس.. واجبنا الأساسي هو تقشير البيض المسلوق ورميه إلى الأسماك ..
كل حوض يحوي العشرات من الأسماك الكبيرة ،حالما نرفع أكفنا لنرمي اليها البيضة،تكون فاتحة أشداقها لتلتهمها بأقل من ثانية لتعود من جديد تنظر إلينا ترغب بالمزيد ..كان المخصص من العلب لكل حوض حصة ثلاثة آلا ف بيضة مسلوقة ..الأحواض الخمسة تستهلك في أربع ساعات ،خمسة عشر ألفا من البيض ،تلك أوامر الزعيم الكبير..فكنا نؤدي عملنا يوميا دون انقطاع . نعمل
طوال فترة الأسبوع دون استراحة ،نقبض أجورنا أسبوعيا ، نحنُ من مناطق شتى في بغداد.. فينا الكبير وفينا الشاب الفتي إضافة للنساء بكافة الأعمار ،حولنا تتآكل لوحة الألوان نجفل من كل حركة مريبة نحونا ،من سفوح آلامنا نصنع ابتسامات الرضى ،نطبع على وجوهنا الناحلة أحلاما تتناسل في الفراغ .علينا أن نعمل ونحن نصنع السعادة الموهومة
، بعد العاشرة ينتهي عملنا ..يتركوا لنا بعدها مجالا للراحة حتى الساعة الثانية بعد الظهر ليسمحوا لنا بعد ذلك بالخروج بعد التفتيش.. ومن ثم العودة إلى منازلنا ،
الأسماك معظمها استيراد من دول أجنبية والبعض سمك عراقي يتم جلبه من الجنوب ،
وإذا رغب الزعيم بتناول وجبة منها ،يأتي شخص مختص في رفع السمك من الماء وتسجيل العدد ونوع السمكة في ورقة تسلم لرئيس الحراس
،كنتُ قانعة بأجري لأنني أعيشُ مع ولديَّ الصغيرين فقط ، بقربي كان ثمة رجل عجوز ..عامل جديد لم يمضِ أسبوع على عمله معنا ..كان واجبه أن يقشَّرُ البيض معنا ،رأيت العجوز يختلسُ النظر نحو الحرّاس الذين يحيطون بالحوض ثم ينظر إلينا وثمة خوف يرتسم في عينيه الصغيرتين ،استخرج ببيضتين من الصندوق ووضعهما في جيبه وهو يزرد ريقه بوجل ،لم يلمحه أحد كما ظننتُ أول وهلة ،قلتُ له هامسة :
_
يا عَمْ ..أحدهم شاهدكَ وأنتً تدسُّ البيض في جيوبك .
_
لم يرني أحد ..صدقيني يا ابنتي أني جائع ..لم أتناول طعام العشاء من ليلة أمس ولم أفطر لحد الآن ..
استمررنا يتقشير البيض وأنا أتوجس خيفة من أحد الحراس في الزاوية القريبة ،كان ينظر إليه والغضب يرتسم في ملامحه و شواربه الكثة تتحرك باستياء واضح ..اقتربتُ من الرجل العجوز وهمستُ له بصوت خفيض:
_
الله يحفظك عمّي ..أخرجْ البيض من جيب سترتك ؟!
_
قلتُ لكِ أني جائع ..اسكتي أرجوكِ ..كي لا تثيرين انتباههم؟
انتهى وقت عملنا كالعادة الساعة العاشرة صباحا ..قبل أن نتفرق لنجلس على الحشائش الخضراء لنتناول ما جلبناه من بيوتنا من طعام ..ونتنعّم بالمروج الندية المنعشة ،اندفع أحد الحراس نحو الرجل العجوز وأمسك به من ذراعه بقوة ،
نادى على الحراس.. جاؤوه هرولةً ووقفوا أمامه ..أشار نحو الرجل وصاح بصوت عال :
_
هذا حرامي ..يسرقُ من طعام الأسماك ويضعها في جيبه ..لم يفه الرجل العجوز وقد شملته رجفه من رأسه حتى قدميه ..دسّ كفه في جيبه وأخرج منه البيضتين ، تناولهما منه أحدهم فيما مدّ كبيرهم ذراعه وصفع العجوز على وجهه..تعثر الرجل بدشداشته وسقط على الأرض ، ثم تقدّم أحدهم ووطأ رأسه ببسطاله الأحمر ..ماذا صنعتَ لنفسك عندما تدلّى الوجع من قبعة القبطان ومخر عُباب شيبتك ليمزق بسهام حقده ما تبقى من كرامتك ..ماذا تجدي الكلمات وأنت طائر مهيض الجناح.؟. مذ مزقنا ورقة التوت ونحن نعاني من العُري .. نركضُ في كل اتجاه ،بحثا عن فجوة في السماء لنحتمي من الطوفان
_
ارحموا شيبتي ..سامحوني يا أولادي ..والله لن أفعلها ثانية .
_
أيها الكلب ..كيف تجرؤ على سرقة طعام أسماك الزعيم ..قالها كبيرهم وأردف :
_
اسكت أيها المجرم ... لن يجدي اعتذارك شيئا ...هيا خذوه ؟
لم تنفع توسلاته لهم وأراد تقبيل يد أحدهم ،فنهرهُ بلطمةِِ على وجهه ..
_
والله جوعان يا ناس. .أستحلفكم بالله أن تغفروا لي ..
اقتادوا الرجل العجوز إلى مكان ما ..ولم نره بعد ذلك ..ولم يجرؤ أي واحد منّا على الدفاع عنه أو التشفع له ..اختفى الرجل العجوز ،وانقطعت أخباره ..كنّا نتمنى أن يكون رهن الحبس أو معتقلا في زنزانة انفرادية على أقل الأحوال.. ذهب إلى حيث نعلم .. تلهث خلفه الضغائن من زبانية لا يعرفون الرحمة .
ولكننا كناّ على يقين أنه قد أُعدِم برميهِ في (المثرامة )*ليكون طعماً للأسماك في نهر دجلة .
____________________
المثرامة /آلة ميكانيكية ضخمة لتقطيع الأجساد .

عن مجلة الثقافة العربية أزمان هاشم

مجلة الثقافة العربية - مجلة أدبية -شاملة - - نهتم بكافة النصوص الأدبية سواء كانت شعر أو نثر أو قصة أو مقال إلخ -- نمد إيدينا لنشر جمال اللغة العربية لغة الضاد ومساعدة المواهب الأدبية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبادة الفيشاوي
»
السابق
رسالة أقدم
«
التالي
رسالة أحدث
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد

close
Banner iklan disini