» » رؤية نقدية انطباعية لمقاربة أغوار النص المدهش الذي كتبه الأديب بدوي الدقادوسي- القراءة بقلم- الكاتبة ناديا بطرس- (فرح جوي)

" ماريو " يأكل " همبورجر"
ترك رفضُه المجيء للوقوف معي في عزاء أمه جرحا غائرا في جبين قلبي ، تعلل بأنهم يضيقون الخناق على العرب في هولندا ؛ ولن يستطيع المجيء إلا بعد الحصول على الإقامة .
برفق سحبت ابنتي صورته من بين يديّ ، حاولتْ أن تُنْهِضَني لأتناول أي طعام يعيد لمعدتي ذاكرة عملها الذي أوشكت أن تنساه ، ربتتْ على صدري وهي تقول: ما رأيك : أشتري لك محمولا حديثا لتستطيع محادثته ورؤيته متى تشاء؟ أومأتُ موافقا ، مددت يدي أسفل وسادتي ، لأناولها مبلغا أحتفظ به " لخرجتي " .
ما إن خرجتْ حتى استعدتُ الصورة ، غامتْ سماء عيني بدمعة حالتْ دون الرؤية ، " همبورجر " كما كان يحلو له أن أناديه صغيرا ، يبكي لأناوله ماكينة الحلاقة ليحلق ذقنه مثلي ، تحت نير الإلحاح أرضخ ، أضع رغوة كثيفة من معجون الحلاقة على وجهه الأملس وأمرر عليه ظهر الماكينة ، تغمره النشوة ، أحمله تحت إبطي ، تغرف كفاه ما تستطيع من ماء الصنبور ليمرره على ورد خديه الرطب ، ينطلق نحو التسريحة ، يضع بين كفيه قليلا من " الكولونيا" ، يمررها على وجهه " يتوحوح " مثلما " أتوحوح" حين يلامس رذاذها موضع الحلاقة الملتهب ، يرتدي طاقم الخروج ، ينادي أمه بصوت جمع فيه كل قوته : أن تحضر له جوربه بسرعة ، فقد تأخر عن موعد العمل ، تحاول إقناعه أنه ما زال صغيرا ، يزداد إصرارا ويقول: من اليوم سيستريح والدي وأخرج أنا للشغل لآتيكم بالمال ، ألحق به عند الباب ، أرتدي قناع الجدية ، أرتكز على ركبتيّ حتى أصير محاذيا رأسه : ما رأيك تأخذ اليوم إجازة لنلعب سويا " ماريو" وغدا في الصباح الباكر تخرج للعمل؟ تلمع عيناه ، يهرع نحو " الأتاري " يضع وصلاته بالتلفاز ، يناولني الذراع القديم ، الذي لا يستجيب للضغط ، أتناوله مبتسما ، يجلس على الكرسي منتشيا بانخداعي والفوز بالذراع الجديد ، يقول منبها: سألعب أولا ، وسأختار " سوبر ماريو الأخضر " ، أبدي الإذعان وأختار " ماريو" الأحمر الذي لا يجيد القفز لتحصيل الذهب الذي يعينه على استكمال المارثون لتحرير الأميرة من يد الأشرار .
يبدأ مشواره في ثقة يعبر حزر اللهب ، يسبح برشاقة في بحيرات من ماء يغلي ، يقفز فوق جبال دونها الموت ، فجأة يضغط " استوب " ينادي أمه وأخته بلهجة آمرة ، ليشاهداه وهو يتخطى عشرات الحراس والبوابات التي يشتعل من تحتها نار، الجحيم جذوة منها ، يصل إلى الأميرة التي تنتظره ، يحررها محبطا كل خطط الأشرار .
بعد تصفيق حاد أحمله على كتفي ألقي به على الفراش ، أتمدد بجواره يطوق بذراعيه الصغيرتين رقبتي ؛ يسألني بلغة تشع بهجة : هل كان جدي يلعب معك " ماريو " وأنت صغير؟ وهل كنتَ تستطيع الوصول للمراحل الأخيرة مثلي؟
أشرد بعيدا ف في ذلك اليوم الذي فتحتُ فيه عيني على صراخ نسوة وقد تحلّقن حول أمي وهي تكبش من تراب وسط الدار تلطخ به وجهها وهن يفعلن مثلها ، تقبِل عماتي من بعيد حافيات يسبقهن صراخ يشق الأفق ؛ معصوبات الرأس بطُرَحٍ سوداء وقد تدلت أطرافها على صدورهن " يشلشلن" بها ثم يتركنها ليشققن ثيابهن عن صدورهن وسرعان ما يتحولن إلى حبات في ذلك العُقد الأسود الذي تتوسطه أمي ؛ حتى إذا ما جاءت " المعددة" وقف الجميع فإذا ما صارت واسطة العقد ظلتْ تتمايل محركة سبابتيها قربا وابتعادا هبوطا وارتفاعا ، نادبة بكلام يتبعه صراخ جماعي .
ما كادت العاصفة تهدأ قليلا حتى خرج النعش من المندرة يتقدمه عمي ، فشد فتيل قنابل الصراخ والعويل مصحوبا بلطم حتى صارت الخدود قطعا من جمر .
سرت خلفهم للمقابر لا يشعر بوجودي أحد ، فلا صوت يعلو فوق صوت الموت " وحدووووووووه " ، اندسستُ بين الأقدام لأستطيع اللحاق بالنعش ، حتى إذا حاذيته ؛ ظللتُ أحملق فيه ، فقد يرفع أبي الغطاء ليراني ؛ ولكنه أبدا لم يفعل .
عدت خلفهم للبيت وصورة النعش لا تفارقني ، تتجدد كل خميس حين تصحبني أمي وهي تضع على رأسها " مشنة " مملوءة بالكعك والقُرَص وبعض الفاكهة ؛ فإذا ما وصلت المقبرة ، جلست مرتكنة بظهرها عليها وبين الحين والحين تمسح عَبرةً ، حتى يأتي ذلك الكفيف الذي تسحبه طفلة تكبرني قليلا ليستقر أمام المقبرة ويقرأ آيات بسرعة وهو يتمايل يمنة ويسرة إلى أن يقول : صدق الله العظيم ببطء ووضوح وارتفاع ، وضعت أمي نصف المخبوزات والفواكه في " خُرجٍ " يحمله لينتقل بصحبة الطفلة لمقبرة مجاورة ؛ ينهال صبية على أمي من كل حدب وصوب طالبين الرحمة والنور فتوزع عليهم ما تبقى لتعود لارتكانها وبين الحين والحين تمسح عَبرةً، وأنا ألاصق أذني للمقبرة لعلي أسمع صوت أبي ولكني أبدا لا أسمع شيئا ! حتى إذا مالت الشمس للغروب والبقع السوداء في السماء أخذتْ أهبتها للانتشار؛ أمسكتْ أمي بيدي متخذين طريق العودة للبيت .
ما زلت أذهب كل خميس أرتكن بظهري للمقبرة ، أمسح بين الحين والحين عبرة حتى يأتي " المقرئ " وحين ينتهي من قراءته أضع نصف المخبوزات والفاكهة في " خرجه" وأُوَزِع ما تبقى على الصبية الذين يأتون طالبين للرحمة والنور على روح أبي وأمي وزوجتي .
انتبهتُ على صرير الباب ، أدركتُ أن ابنتي قد عادت بالمحمول ، جلست تعلمني " التاتش " وكيف أدخل على الفيس وهي تقول : " هعمل لك حسابا على " الفيس بوك " وأطلب صداقته وحين أتمتْ سألتني : ماذا أكتب له؟
قولي له : " همبورجر الحبيب : أليس لماريو والد؟
:::::::::::::::::::::::::::::::::::::
عنوان النص يشير إلى لعبة الكترونية تعلق بها الأولاد منذ عشرات السنين مع بدء انطلاقة الألعاب الرقمية .. وهنا ما يثير التعجب أن بطل اللعبة يأكل الوجبة السريعة \همبرغر\ !
استهلال النص بموقف أليم من ابن يفضل تأمين وضعه في بلاد الغربة على موافاة الوالد للوقوف بجانبه بتشييع والدته ووداعها الوداع الأخير .. حيث وصل به الحزن لملازمته الفراش وامتناعه عن تناول الطعام.. إلى التحديق بصورة ابنه البعيد قلبا وقالبا عنه وعما يعانيه، الأمر الذي دفع الابنة المهمشة من الاهتمام والعاطفة في الأسرة والمستميتة في خدمة والدها والتخفيف من حزنه، لطرحها عليه فكرة شراء محمول متطور يساعده في مكالمة ابنه... يوافق بهزة رأس كما المغيّب عن حاضره وينفق آخر ما ادخره لتكفينه ودفنه على محمول عله يحمل له صوت حلمه الضائع، لينتهي النص بتساؤل مفتوح على عنوانه: \" همبورجر الحبيب : أليس لماريو والد؟\
اذن النص يطرح من حيث المضمون عدة أفكار فرعية إضافة للفكرة الرئيسة : تخلي الابن في مسيرته السلوكية والعاطفية والنفسية عن السير على خطى والده \الذي عانى ولازال يعاني من اختلال عاطفي ونفسي اثر فقدان الأب المبكر وفقدان الابن البطل الحلم الذي صنعه بالغش\ من حيث التعامل الأسري والعاطفي وتغيير الأولويات في مسيرة حياته...
وأما الأفكار الفرعية فهي: أسلوب التربية الخاطئ من الأهل بجعل الولد محور اهتمام الجميع وتفضيله على البنت وإزكاء روح الأنانية فيه وجعله بطلا منفوخا ببطولات مغشوشة بل وموافقته ضمنيا على الغش للوصول الى الفوز.. مع إضاءة \أراها مقحمة على القصة الأساس\ على صراع الأجيال بين القديم وجيل التكنولوجيا الرقمية وتغيّر أساليب التواصل وهو ما تعززه القفلة المضيئة العنوان: حيث الوجبة السريعة التحضير التي ترمز للابن يلتهمها السعي البطولي الوهمي عبر بطل اللعبة المنتجة رقميا ماريو ليفقدها صفاتها الإنسانية المألوفة.
من حيث اللغة المشوقة وبغض النظر عن الهفوات اللغوية \ المجيء، الإلحاح، رذاذها، بتلطيم أو بلطم، لارتكانها، المقرئ\ نجد بداية النص كانت تستعرض محسنات اللغة وجزالتها ليؤكد الكاتب تمكنه منها عندما يصل القارئ إلى بساطة السرد باللهجة المحكية والتي تراوحت بين خدمة إيصال الفكرة للقارئ: ك\ كفيه قليلا من " الكولونيا" ، يمررها على وجهه " يتوحوح " مثلما " أتوحوح"\ ، والإغراق في محلية اللهجة العامية التي لم تخدم النص في أماكن أخرى ك\ " يشلشلن" بها.. جاءت " المعددة"\
أما الأسلوب فقد نجح في دغدغة عواطف القارئ وجعله يتعاطف مع الأب المفجوع بزوجته وابنه معا وخاصة عبر سؤال القفلة الموجع والإشارة إلى ضعف الأب العاطفي حتى المنتهى والمتمثل بصرفه مدخر خرجته على موبايل يأمل منه توصيله بابنه... مع إضاءة خفية على هضم حقوق الابنة البارة بأهلها رغم تهميشها أمام أخيها...
وربما فقرة ذكريات وفاة أب الوالد وتفصيله بالذكريات للوصول إلى ذكريات الذكريات وأخذه دور والدته بالذهاب إلى المدفن وعمله ما كانت تعمله .. وكأنه تم التوسع به بعد انتهاء الكاتب من النص وهو ما أدى إلى خروج النص من التجنيس الأدبي المألوف، فلا هو بقي قصة قصيرة ولا هو اكتمل ليصبح قصة .

عن مجلة الثقافة العربية أزمان هاشم

مجلة الثقافة العربية - مجلة أدبية -شاملة - - نهتم بكافة النصوص الأدبية سواء كانت شعر أو نثر أو قصة أو مقال إلخ -- نمد إيدينا لنشر جمال اللغة العربية لغة الضاد ومساعدة المواهب الأدبية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبادة الفيشاوي
»
السابق
رسالة أقدم
«
التالي
رسالة أحدث
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد

close
Banner iklan disini