» » من أدب الطفل- الكَوْنُ يَرْسُمُ - بقلم- سريعة سليم حديد

أُرِيْدُ أَنْ أَتَعَلَّمَ, كَيْفَ أَرْسُمُ. سَأَلْتُ أُمِّيْ هَذَا السُّؤَالُ, قَالَتْ: افْتَحِ البَابَ, واخْرُجْ, سَتَرَى حَوْلَكَ الكَوْنَ, كَيْفَ يَرْسُمُ.
أُخْبِرَكُمْ بِأَنَّنِيْ أَطَعْتُ أُمِّيْ, خَرَجْتُ, شَاهَدْتُ الثَّلْجَ كَيْفَ يَرَسُمُ الجِبَالَ, كَيْفَ يُخَطِّطُ أَغْصَانَ الأَشْجَارِ, دُرُوْبَ الأَرْضِ المَحْرُوْثَةِ, أَسْطِحَة المَنَازِلِ, لَكِنَّهُ لا يَمْلِكُ إِلا لَوْنَاً وَاحِدَاً بَهِيَّاً, مَا أَرْوَعَهُ مِنْ لَوْنٍ!
اُنْظُرُوْا مَعِيْ إِلى الغُيُوْمِ, أَرَاهَا تُتْقِنُ فَنَّ الرَّسْمِ أَيْضَاً, غَيْمَةٌ تُشَكِّلُ مَشْهَدَ طِفْلَيْنِ مُتَعَانِقَيْنِ, وَأُخْرَى تَرسُمُ بَطَّةً ضَخْمَةً, وَثَالِثَةٌ تَرْسُمُ قِطَّةً بِلا ذَيِلٍ, وَهُنَاكَ كُتَلٌ مِنَ الغُيُوْمِ, تَتَنَاثَرُ هُنَا وهُنَاكَ كَالقُطْنِ الطَّرِيْ.
الغُيُوْمُ رَائِعَةُ الجَمَالِ, أَتَعْرِفُوْنَ مَتَى؟ سَأَقُوْلُ لَكُمْ: قَبْلَ غُرُوْبِ الشَّمْسِ, وهي تَتَرَاقَصُ بِأَطْرَافِهَا الذَّهَبِيَّةِ, والزَّرْقَاءِ والحَمْرَاءِ والصَّفْرَاءِ والنَّارِيَّةِ, وَكَأَنَّهَا اِسْتَعَارَتْ عُلْبَةَ أَلْوَانِ قَوْسِ قُزَحٍ.
آهٍ, صَحْيٍحٌ, قَوْسُ قُزَحٍ, هُوَ مَاهِرٌ فِيْ رَسْمِ الأَقْوَاسِ, وتَلْوِيْنِهْا, أَنْتُمْ تَعْرِفُوْنَ, كَمْ هُوَ بَارِعٌ فِيْ الظُّهُوْرِ بَعْدَ المَطَرِ! يطلُّ عَبْرَ القَطَرِاتِ العَالِقَةِ فِي الهَوَاءِ, فَتَصْبِحُ كُلُّ قَطْرَةٍ مَوْشُوْرَاً يَعْكِسُ الأَلْوَانَ.
أَيَّتُهَا الشَّمْسُ, أَنْتِ رَسَّامَةٌ أَيْضَاً, تَرْسُمِيْنَ ظِلالَ الأَشْجَارِ, النَّبَاتَاتِ المَنَازِلَ, العَصَافِيْرَ حَتَّى وَهِيَ تَطِيْرُ.
اِكْتَشَفْتُ أَمْرَاً مُهمَاً, سَأُخْبِرُكُمْ بِهِ حَالاً: اِكْتَشَفْتُ أَنَّ الشَّمْسَ تَرْسُمُ (كاريكاتيرياً) نَعَمْ, رُسُوْمَاتُهَا مُضْحِكَةٌ, وعلى وَجِهِ التَّحْدِيْدِ فِيْ وَقْتِ مَا بَعْد العَصْرِ, أَنْظُرُ إِلَى ظِلِّيْ, قَدَمَايْ طَوْيِلَتَانِ, وَرَأْسِيْ أَيْضَاً, حَتَّى الخَرَوْفُ وهُوَ يَأْكُلُ العُشْبَ, يَبْدُوْ ظِلُّهُ طَوِيْلاً, والحِصَانُ, والأَشْجْارُ, والبُيُوْتُ, كُلُّهَا ذَاتُ ظِلالٍ مُتَمَدِّدَةٍ مُدْهِشَةٍ.
مَهْلاً, أَعْرِفُ مَاذَا سَتَقُوْلُوْنَ: الظِّلالُ (كاريكاتيرية) أَيْضَاً فِي الصَّبَاحِ البَاكِرِ. نَعَمْ, هَذَا صَحِيْحٌ, عِنْدَ الشُّرْوُقِ تَكُوْنُ كُلُّ الظِّلالِ طَوِيْلَةً, وَتَأخُذُ بِالْقِصَرِ رُوَيْدَاً رُوَيْدَاً حَتَّى تَصِلَ الشَّمْسُ وَسَطَ السَّمَاءِ, ثُمَّ تَعُوْدَ الظِّلالُ, لِتَتَمَدَّدَ رُوَيْدَاً رُوَيْدَاً, حَتَّى نِهَايَةِ وقْتِ الغُرُوْبِ, بِهَذَا تَكُوْنُ الشَّمْسُ قَدْ رَسَمَتْ فَوْقَنَا قُبَّةً مِنَ الضِّيَاءِ.
لَكِنْ, سَأَغْلِبُكِ أَيَّتُهَا الشَّمْسُ, سَأَرْسُمُ أَجْمَلَ مَنْ رُسُوْمَاتِكِ, وَسَأُرِيْ لَوْحَاتِيْ لأُمِّيْ, لِتَعْتَرِفَ بِتَفَوّقِيْ عَلَيْكِ, هَذَا تَحَدٍّ بَيْنَنَا.
لَقَدْ تَأَخَّرْتُ كَثِيْرَاً, لا بُدَّ مِن العَوْدَةِ إِلى البَيْتِ, لَكِنْ, سَأُبْحِرُ في هَذَا الزَّوْرَقِ قَلِيْلاً, فَالنَّهْرُ هَادِئٌ جَمِيْلٌ, وَالتَّجْديْفُ رِيَاضَةٌ مُمْتِعَةٌ, وَنُزْهَةٌ مُشَوِّقَةٌ, أَنْظُرُ إِلى المِيَاهِ مِنْ هَذَا الجَانِبِ, شَيْءٌ مُضْحِكٌ, يَبْدُوْ رَأْسِيْ مَقْلُوْبَاً في المَاءِ, وظِلُّ الزَّوْرَقِ أَيْضَاً, والأَشْجَارُ, والنَّبَاتَاتُ, المَاءُ يَعْكِسُ صُوَرَهَا بِصَفَاءٍ, يَا لَكَ مِنْ رَسَّامٍ رَائِعٍ أَيُّهَا النَّهْرُ!
سَأَعُوْدُ إِلى البَيْتِ حَالاً, أُمِّي سَتَكُوْنُ قَلِقَةً عَلَيَّ, مَعَهَا حَقٌّ, أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ لَقَدْ مَضَى الوَقْتُ بِسُرْعَةٍ.
مَاذَا؟ أَرَاهَا تُلَوِّحُ لي بِيَدِهَا, وَعلى وَجْهِهَا مَلامِحُ الغَضَبِ, رَكَضْتُ إِلَيْهَا, أَنَا آسِفٌ, يا أُمِّيْ! أُخْبِرُكِ بَأَنَّنِيْ تَعَرَّفْتُ عَلى الكَوْنِ كَيْفَ يَرْسُمُ, لَكِنَّ الشَّمْسَ والثَّلْجَ, وقَوْسُ قُزَح, لَنْ يَسْتَطِيْعُوا أَنْ يَرْسُمُوا مَلامِحَ وَجْهِكِ الغَاضِبِ, أَنَا مَنْ سَيَرْسُمُهُ, شُكْرَاً لأَنَّكِ اِبْتَسَمْتِ, سَأَرْسُمُ نَظْرَتَكِ الحَنُوْنَةَ, واِبْتِسَامَتَكِ النَّاعِمَةَ يَا أَجْمَلَ أُمٍّ في العَالَمِ!


عن مجلة الثقافة العربية أزمان هاشم

مجلة الثقافة العربية - مجلة أدبية -شاملة - - نهتم بكافة النصوص الأدبية سواء كانت شعر أو نثر أو قصة أو مقال إلخ -- نمد إيدينا لنشر جمال اللغة العربية لغة الضاد ومساعدة المواهب الأدبية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبادة الفيشاوي
»
السابق
رسالة أقدم
«
التالي
رسالة أحدث
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد

close
Banner iklan disini