» » أهل السينما وأهل السوق- بقلم الكاتب- مصطفى تاج الدين الموسى

ــ لن تعيش طويلاً يا أخي ــ غصة مريرة علقتْ بحنجرته، ثمّ أردف بأسى ــ في أفضل الأحوال لديك أشهر قليلة، المرض انتشر في جسدك كله.. سوف أعطيك بعض الأدوية تساعدك على تحمّل الأوجاع..
أشاح الطبيب بوجهه جانباً، ليبعد عينيه عن ملامحي غير المكترثة لهذا الخبر الأسود.
بعد أن ربّت بحنان على كتفي، أخذتُ الأدوية بكسل ومضيتُ إلى بيتي حيث أعيش وحيداً، وأنا أتثاءب بلا مبالاة.
فكرتُ في المساء كيف أرتّب موضوع موتي خلال هذه الأشهر، لم أعثر على طريقة تساعدني على ذلك.. ثمّ استنتجتُ آخر السهرة: موتي لا يحتاج أيّ ترتيبات، لا عائلة لدي ولا أقارب ولا حتى أصدقاء, سوف أموت دون أن ينتبه لذلك أيّ إنسان.
خلال ست وثلاثين سنة من حياتي لا أذكر أنني انشغلتُ بالسينما أو شاهدتُ ــ على الأقل ــ فيلماً واحداً، شعرتُ أنني بحاجة للسينما. لماذا؟ لا أعرف؟ يبدو أن الذين على وشك الموت تصير لديهم اهتمامات غامضة.
ثمّة قناة فضائية على التلفاز تبث طوال الليل أفلاماً سينمائية عالمية، وتعيد بثها نهاراً، صرتُ أتابع أفلامها من المساء إلى الليل حتى الصباح حيث أنام عادة، ولأنني لا أفهم اللغات الأجنبية لهذه الأفلام كنتُ أشاهدها دونما صوت، وأنا أراقب حركات الممثلين ووجوههم وشفاههم لأستنتج حكاية الفيلم.
مرّت الأيام والأسابيع وأنا أتابع الأفلام في إدمانٍ سينمائيٍّ ليليٍّ، عشرات وعشرات الأفلام الصامتة، مع الشاي والقهوة والسجائر، من فوق سريري.
شيءٌ غريب حدث معي في كلّ هذه الأفلام، القصة ذاتها لا تتغير، يتغير الممثلون والمخرجون والديكورات والحقبة التاريخية، لكن القصة هي ذاتها في هذه الأفلام كلها، كما كنتُ أستنتج خلال متابعتي لكل فيلم
يوجد طفلٌ في الخامسة من عمره، ضائع.. وكلّ من في الفيلم يبحثون عنه، وكلّ فيلم ينتهي ولا يعثر أبطاله على ذلك الطفل الضائع.
هكذا استنتجتُ حكاية هذه الأفلام، أعتقد أنني متأكد، وكأن ليس لدى السينما العالمية غير هذه القصة.
خلال أشهر من هذه الأفلام الصامتة لا أحد عثر على ذلك الطفل الضائع.
لم أحتمل هذه الليلة أوجاعي، الأدوية ومحاولات انشغالي بهذا الفيلم ــ الذي أتابعه الآن ــ لم تقنع جسدي أن ينسى الألم، نهضتُ بوهن عن سريري لأجرّ رجليّ إلى الطاولة، دختُ، صارتْ غرفتي أرجوحة ودارتْ بي، سقطتُ أرضاً وأنا أسعل، مسحتُ بكفي على فمي، ثمّ شاهدت دماً على أصابعي.
(يبدو أن الموت قد وصل) همستُ بوحشة لنفسي.
نزلوا بهدوءٍ عن شاشة التلفاز، اقترب أبطال الفيلم مني وساعدوني على النهوض، همس أحدهم لي مبتسماً بلطف: لا تقلق، تعال معنا..
التقط هذا اللطيف يدي وخرجنا كلنا معاً إلى الشوارع، كنتُ محاصراً بابتساماتهم، مشينا في سوق المدينة قليلاً، ثمّ شاهدنا امرأة تقترب منا بسرعة، وهي تصيح بفزع كلمات متداخلة بعضها ببعض، عندما وصلتْ إليّ انحنتْ وصفعتني، كانت تبكي: مليون مرّة قلت لك لا تبتعد عني يا قرد..
تنفستْ الصعداء وحضنتني، أنا ما قبل الصفعة وما بعد الحضن بقيتُ مثل الأبله، لا شيء يعنيه. أحدهم مسح على شعري بشكلٍ غليظ.
بعد أن هنأوا أمي بمناسبة عثورها على طفلها الذي لم يتجاوز الخامسة، شكرتهم بفرح وهي تتنفس الصعداء، أخذت يدي ولوّحتْ بمودة لأهل السوق، ومضتْ بي إلى بيتنا.
خلفنا تفرق، أهل السينما وأهل السوق: وجهان لذات العملة.
مشيتُ على الأرصفة جانبها، بلا مبالاة، صمتٌ ثقيلٌ وكثيفٌ سحق ملامحي خلال هذا المشوار إلى السوق، وأعتقد أنه سحق ملامحي إلى الأبد
طفلٌ في الخامسة من عمره ضاع عن أمه في سوق المدينة لساعة، فشاهد.. في ساعة الضياع هذه، كلّ حياته التي سوف يعيشها حتى السادسة والثلاثين.
على الأرصفة، أنا في الخامسة، أمشي بلا مبالاة، بوجهٍ غامض، وأمي تجرّني إلى بيتنا، خيّل لي أن لا شيء سوف يفاجئني خلال ستة وثلاثين عاماً.. لا شيء سوف يحزنني ولاشيء سوف يفرحني.. 
لأنني في ساعة ضياع واحدة، في الخامسة من عمري، عرفتها بل شاهدتها كلها ــ في ازدحام البشر في سوق المدينة ــ حياتي التي سوف أعيشها.

عن مجلة الثقافة العربية أزمان هاشم

مجلة الثقافة العربية - مجلة أدبية -شاملة - - نهتم بكافة النصوص الأدبية سواء كانت شعر أو نثر أو قصة أو مقال إلخ -- نمد إيدينا لنشر جمال اللغة العربية لغة الضاد ومساعدة المواهب الأدبية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبادة الفيشاوي
»
السابق
رسالة أقدم
«
التالي
رسالة أحدث
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد

close
Banner iklan disini