» » قراءة للأستاذة / الزهرة الصالح في القصة القصيرة : " اليقظة " للأديب / مهاب حسين مصطفى


_________________  

عائد لتوه من تعب يوم شاق، شارد الذهن يفكر في رزق الغد، فإذا به يصطدم بموكب الملك، ليخترقه دون أن يدري؛ فيلحقه الحراس ويدقوا رأسه بكعب البنادق، فيفقد الوعي...هنا تبدأ القصة...

أفاق!.. أين أفاق؟ أفاق في السجن!

أفاق ولم يفق!..تداخل الشعور واللاشعور، الحقيقة، وما تخزنه الذاكرة، من تمني وحرمان

يجد نفسه وسط الممنوع، وقد أبيح له، يأكل كل يراه ويشتهيه والذي لاتقدر استيعابيته المادية على شراءه، يتخلص من الحرمان الذي يكبت على أنفاسه، يتمتع بعرق جبينه وتعبه... و...

"سار الهوينى .. يشاهد ويتأمل وجوه الناس المستغرقة في الاحتفال .. يحتسون كؤوس الخمر، شعر بأن وجوههم مألوفة، كأنها تتطابق مع زملائه في العمل، أشاورا له بأن يشاركهم، ندت عنه إيماءة بلا معنى، رنت ضحكاتهم في جوانب القصر".

في هاته اللحظة يشاهد وجوه السجناء المحجوزين معه، ( واللا وعي مازال متيقظا، الاحتفال الذي أمامه يراه في القصر..). يشبهون زملاءه، في بوادر القهر البائنة على محياهم، يدعونه ليشاركهم ، يشاركهم ماذا؟ سيجيبنا النص فيما بعد...

المشاهد تتداخل أمامه مابين حقيقة وخيال...

ينظر للسجناء..منهم المدمنون، ومنهم رجال الدين، ومنهم الذين يئسوا واستسلموا وينتظرون الجنة والحور العين...

وتبقى المشاهد في تداخلها..العقل يرفض العودة للواقع، والإقرار بأنه سجين، وأن من يراه أمامه هو المخبر الذي أتى به، وأن الأستعراض الذي أمامه ما هو إلا ذهاب وإياب لرجال الأمن ببزاتهم المزركشة.. وأما الشيخ الذي يلقي الدرس فما هو إلا سجين معه، لا يكف عن دروسه حتى في السجن، وما مريدوه إلا سجناء يئسوا من الحياة وينتظرون الجنة والحور العين...

وما العجوز إلا سجين، يسأله عن لفافة الحشيش التي فعلت به كل هذا، وعملت مفعولها السحري وجعلته يطير، وحلقت بعقله إلى حيث الكرامة والحرية الموؤودتين في الواقع...لتجعله يستسلم في الأخير للنوم ويرى أشياء وأشياء يستيقظ بعدها على صوت سجانيه...و...

كان هذا مجرد استقراء موجز للنص، لا أدري مدى توفقي فيه، ويبقى الاستنباط مهمة النقاد.



النص 

اليقظة
عائد لتوه ..
ينوء بأكفان يوم شاق مضى، يتحسب لغد مجهول أتي .
يتلمس طريق المنزل، تفادى الموكب المهيب وجموع الناس، وسار على قدميه.. مخترقا دون أن يدري حشدهم المتدافع المشتعل بالهتاف، متجاوزاً دوائر الممنوع.
لحق به الحرس المرافق ..
أوقفوه لصق الجدار..
كبلوا يديه من الخلف، أوثقوا عصابة فوق عينيه.. دقوا رأسه بكعب بنادقهم، أغمض جفنيه، وراح في غيبوبة.
أفاق ..
ليجد نفسه في قاعة فسيحة.. محتشدة بالرجال والنساء .. في ثياب حريرية مطرزة، رائحة بخور تتخايل لأنفه،
موائد ممتدة ومتخمة بما لذ وطاب..
الكل يلتهم الفتة المرصعة بهبر لحم الضأن في نهم .. نوافير تتدفق بشلالات مياه ملونه بفعل أضواء خلابة،
تتوسط الباحة.
صوت المعازف يضفي على المكان أجواء أسطورية، كألف ليلة وليلة..
سار الهوينى .. يشاهد ويتأمل وجوه الناس، المستغرقة في الاحتفال .. يحتسون كؤوس الخمر، شعر بأن وجوههم مألوفة، كأنها تتطابق مع زملائه في العمل، أشاروا له بأن يشاركهم، ندت عنه إيماءة بلا معنى، رنت ضحكاتهم في جوانب القصر .
تعجب مما حدث له ..
مابين طرفة عين وأخرى.
تناسى عن عمد كل ما سبق هذا البعث المبهر، المحير .. غير المبرر !.
"الموكب، العصابة، الحشد .. كل شيء، كل شيء " .. لا يريد أن يتذكر سوى اللحظة الآنية.
أيكون قد مات ؟.
و تم حسابه ..
هل دخل الجنة أم النار ؟.
توالى قدوم عدة رجال علي الساحة، يرتدون ثيابا مزركشة، أخذوا يؤدون ببراعة حركات راقصة، منسقة، يتلوون في انسيابية. لما أطال التحديق فيهم.. رمقه أحدهم بنظرة جامدة ..
عرفه على الفور ..
إنه أحد المخبرين الذين استوقفوه في الموكب، انتابه الذعر .. أشاح بوجهه مبتعدا..
كان السلطان كما يبدو من هيئته، يتربع في صدر المجلس بجوار الحاشية، يصفق ويثني على العرض !.
تساءل..
هؤلاء الناس ..
هل مثله، قدموا للمكان بنفس الطريقة. خاف أن يسأل، فيفسد تعويذة السحر ..لتفقد مفعولها، فيجد نفسه من جديد في أحضان طواحين البؤس والشقاء.
استأنس بشعور .. أن لا أحد يراقبه، لا أحد يعد أنفاسه، يرصد خطواته.
إنه حر طليق ..
نعم يشعر بذلك لأول مرة ..
حر ..
يتكلم، يصمت، يأكل، يغني، يتثاءب..
كأنه مزق صك العبودية.
فك أسر قيود الإذلال.
عجوز يشبه أباه، يلوح بلفافة، اقترب منه، بادره بالسؤال :
- أين لفافتك يابني ؟.
- هه.. "وفتح فاهُ مشدوها".
- ألم تقابل كبير الديوان ؟.
- لا
مستعجبا :
- كيف جئت إذن ؟!.
- ماذا تحوي اللفافة ؟.
- ألا تتذكر..
سحب شهيقا عميقا .. وزفره ببطء متلذذا.. طاردا كل سموم روحه..
في ركن عامود، شيخ يتصدر مجلس علم، كما تبدو هيئته، يُلقي درسا، ومريدوه كثر، يتابعونه في شغف .
جلس القرفصاء، ينصت.
تحدث الشيخ عن علم الفلك ومدارات الأقمار، وقوانين المد والجزر، وأخذ يتنقل برشاقة وعذوبة مابين موضوعات شتى، بلغة يسيره .. يسبغ عليها تفسيرات حياتية مذهلة فيآسر الألباب بعمق حكمته، وغزارة علمه.
ما أن أنهى حديثه.. حتى انفض الجمع،
استبقاه بإشارة من يده .. سأله عن وجهته،
وماذا استفاد مما سمع .. تلعثم، بان الغضب على وجه الشيخ المشرّب بالحمرة :
- من أتى بك ؟.
- لا أعرف .
- أول مرة ؟..
المنصتون لدرس الشيخ، أخذوا يلتفون لاهين حول مغنيات حسان ممشوقات القوام، بأصواتهن الرخيمة، يدققن الأوتار، يترنمن بموشحات أندلسية بديعة،
لاتُخطؤها الأذن ..
أومأ السلطان برأسه، فسرعان مانصبوا أمامه ستارة بيضاء شفافة، تومض خلفها مصابيح إضاءة .
وشرع يشاهد وهو يقهقه، إحدى تمثيليات خيال الظل، التي تجسد دُماه "عجيب الدين الواعظ" و"عسلية المعاجيني" و"عواد الشرماط" و"مبارك الفيال" و"ناتو السوداني"..
وهي قصة طومان باي ..
وكيف تم شنقه أمام الناس .. على باب زويلة .
خرج من القاعة ..
بعد أن ملأ بطنه بأكداس اللحم، وتجرع كأسين من النبيذ المعتق.
لمح شجرة سنديان ضخمة وارفة الأغصان، لم ير مثلها من قبل، يمتد ظلها مسيرة أيام كما سمع من أحدهم، أسند رأسه على جذعها..
غلبه النعاس..
فراح فى سبات ..حتى علا غطيطه على
صوت صدح البلال .
استيقظ على سباب فاحش، وهراوة غليظة تنغز كتفه في عنف..
شعر بتورم جسده كله، ثقل أجفانه،
فتح حدقتيه بصعوبه شديدة ..
- "وجوه شمعيه بملامح شائهة، ملابسهم مزركشة .. يجلسون أمامي، يتفحصونني في ازدراء، السلطان يتوسطهم.. الشيخ الُمعلم ينزوي في الركن صامتا .. طومان باي يشهر سيفه ..
أبي يهز رأسه آسفا..
زعقوا في بصوت جماعي خشن قميء ..
بأن أُفيق .." .
ثم بدأوا الاستجواب .


عن مجلة الثقافة العربية أزمان هاشم

مجلة الثقافة العربية - مجلة أدبية -شاملة - - نهتم بكافة النصوص الأدبية سواء كانت شعر أو نثر أو قصة أو مقال إلخ -- نمد إيدينا لنشر جمال اللغة العربية لغة الضاد ومساعدة المواهب الأدبية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبادة الفيشاوي
»
السابق
رسالة أقدم
«
التالي
رسالة أحدث
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد

close
Banner iklan disini