القصة القصيرة جدا جنس سردي حداثي متفرد في جريان التجريب السردي، بأسسه الفنية التي تميزه من تكثيف وترميز يختزلان في أسطر قليلة حكاية قد تستغرق في جنس القصة القصيرة صفحات عديدة.
ولعل من أبرز الإشكاليات التي يطرحها جنس القصة القصيرة جدا نجد عتبة العنوان.
فالعنوان بالعود إلى التعريف الجينيتي ( نسبة إلى جيرار جنيت) في كتابه "عتبات"( Seuils ) هو العتبة الأولى التي تواجه القارئ في رحلة قراءة النص وتقصي معانيه. وانطلاقا من ارتكاز وظيفية العتبات، أولا، على مقصدية تيسير قراءة سلسة جيدة فإن عتبة العنوان حملت جسامة هذه المهمة فاشترط فيها أن تتصف العنونة في الرواية والقصة القصيرة بالوضوح والتعالق مع تيمة النص الكبرى وقضيته الأس تعالقا مومئا إليها موحيا بها مشوقا القارئ إلى إدراك ذلك.
لكن، والأمر في القصة القصيرة جدا ينبني أساسا على الغموض والتكثيف، فإن سمة العنوان باتت الإبهام الذي يبذر في فكر المتلقي الحيرة حد السخرية من مدى تعسر الربط بينه وبين أحداث النص، بل إن الغموض يظل يسمه حتى الجملة الأخيرة التي تمثل عودا إليه لتفتح مغاليق الدلالة فيه وتفك عنه اللبس والإبهام. والعنوان بهذه السمة وهو يدور في فلك شروط فن القصة القصيرة جدا، يبدو عتمة تعترض سبيل القارئ في رحلة القراءة والفهم والاستقراء.
لكن ما سر هذه العتمة؟
إن القصة القصيرة جدا بناء مرصوص لا يمكن تفكيكه إلى مقاطع سردية، ولا ينفصل العنوان فيها عن كل كلمة في هذا البناء. فهي كل يدفع بعضه بعضا نحو الجملة الخاتمة التي تمثل المفتاح، ولعلها في رؤية نقدية جديدة تكون هي عتبة النص لا عنوانه. هذا البناء المرصوص يتنامى السرد فيه تكثيفا وترميزا نحو ذروة الغموض قبل لحظة الإضاءة الخاتمة التي تجعل عملية الفهم تنبني في حركة معاكسة لمثيلتها في الرواية والقصة القصيرة، حركة لا تتخذ مسارها مع مسار السرد بل تشرع فيه لحظة انتهائه، فتعود إليه تفكيكا لتراكيبه وتوضيحا لدلالات معاجمه وتفسيرا لرموزه وتحليلا للوشائج الجامعة بين تلك التراكيب وتلك المعاجم، ثم تعيد تجميعه من جديد استنارة بكل تلك المؤشرات الدالة فيتشكل المعنى وتبرز القراءة وبذلك تتحقق شراكة القارئ في العملية الإبداعية النصية كما ضبطتها نظرية التلقي مع ياوس وإيزر.
إن عنوان القصة القصيرة جدا عتبة تمنح القارئ مفاتيح ولوج عوالم النص بما تبذر في فكره من دهشة وحيرة وعزم على فك " شيفرته" فتبدأ رحلة القراءة التي تفضي إلى رحلة الاستقراء المسكونة بالسؤال الذي لا يتوقف مجراه بل يظل دافقا يفضي بعضه إلى بعض، المضمخة بهوس البحث الجاد في العلائق التركيبية والمعجمية والتناصية، المتوسلة بآليات التأويل، حتى تضحي عملية القراءة فعلا إبداعيا ينسف دأب القراءة السلبية العاجزة.
على إيقاع عيدها...
القصة القصيرة جدا منذ عنوانها عتمات عتبات تشقي القارئ بعسر رحلة التلقي لتهبه معانيها ودلالاتها فيلفي نفسه أمام قضايا اجتماعية إيديولوجية شتى...