١
صباح الخير يا أمي، أكتب إليك وسماء هذا اليوم ملبدةٌ بالدخان، ثمة سحابةٌ كثيفةٌٌ من ضبابٍ أزرقٍ تحجب الشمس، والأشياء، تسللت الرائحة ثقيلةً حتى امتلأ بها فراغ الخندق الضيق، فاختنقت، رائحةٌ تشبه احتراق كومةً من أعواد الثقاب مرةً واحدة، حملني أبي بين يديه وجرى بي إلى الخارج، حين ضربني الهواء البارد المشبع بروائح مختلطة، سعلت، كادت رئتي تخرجان من حلقي، وانقلبت معدتي، وتقيأت، الكثير من البلغم اللزج، وماءٌ أصفر أغرق ملابسي، وحذائي، لم يكن ثمة الكثير من الطعام لألفظه إلى الخارج، فأنا منذ يومين لم آكل إلا الخبز الحافي، وبعض ثمرات الفاكهة المجففة، والماء...أشرب الكثير من الماء، بئرنا الذي حفره أبي في باحة المنزل الخلفية لم يكف عن التدفق، ولم تنل منه الغارات المتتالية، ولا القذائف التي تحيل الليل إلى نهارٍ، والنهارات إلى ليالٍ مخيفةٍ حبلى بالكوابيس، أعطاني أبي ثمرة موزٍ صغيرة، أزال قشرتها فبدت ثمرتها ناضجةً تماماً
-كل هذه، الموز يوقف القيء
ربت على كتفي، و أحضر كوباً ممتلأً بالماء، غسل وجهي، ورأسي، ثم اصطحبني إلى الداخل، كان جانبٌ كبيرٌ من سور الحديقة قد تهدم، وكان ثمة الكثير من الزجاج المتطاير في كل مكان، قطعٌ متعددة الأحجام والأشكال، وحادةٌ جداً، في الداخل كان الإطار الذي يحوي صورتنا مجتمعين، أنت، وأبي، وأختي الكبيرة، قد مال تماماً على الحائط، وشرخ طوليٌ كبيرٌ يشق زجاجه الصلب، كانت أختي مبتسمةً لا تزال، وخصلةٌ من شعرها الأشقر الناعم تغطي جبينها الأبيض، لم تكن الشظية المشتعلة قد تركت بعد هذا الثقب الأسود المحترق الذي توسطه غائراً، ينز منه دمٌ أسودٌ كثيف، وبقايا مادة بيضاء، حدث هذا في اليوم الثالث لغيابك، رأيت أبي يلطم خديه، بينما يدور حول نفسه كأسدٍ جريح، شق قميصه، وعصبه حول الرأس الذي غطاه الدم تماماً، التصقت بالحائط مرعوباً، ثم غامت الدنيا، وهويت في بئرٍ بلا قرار
٢
مساء الخير يا أمي، مرت خمس ليالٍ دون أن أكتب إليك، يصعب تمييز الليل من النهار في هذا النفق الضيق، لكنني صرت بارعاً في التفريق بينهما، حين تشتد وطأة القذائف أعرف أن المساء قد حل، أغفو على ساق أبي الذي يحاول جاهداً التقاط إشارةٍ لمذياعه الصغير في حجم كف اليد، يغير اتجاه ذراعه يميناً، ويساراً وإلى أعلى، دون فائدة، دائماً ثمة تلك الوشوشة، تتخللها أصواتٌ مختلطةٌ لا تستطيع معرفة إن كانت لبشرٍ يتحدثون، أم أنها صرخات أناس يستغيثون! تسكت أصوات القذائف فأعرف أن الصباح قد جاء، لا تزال العصافير تغرد هنا رغم الحرب، والعصافير لا تترك أعشاشها إلا حين يطلع النهار، سامحيني إن تأخرت عليك، جف مداد قلمي، وسكت تماماً، حاولت معه دون فائدة، برمته بين كفي كما اعتدت أن أفعل في السابق، ولم يستجب، قال أبي أن البرد يجمد الحبر في أنابيب الأقلام، تماماً كما يجمد الخوف الدم في العروق، لم أكن أشعر بالبرد يا أمي، لا تقلقي علي، فبعد أن مات ركس كلبنا العجوز...ألم أخبرك من قبل أنه مات؟ وجدناه صبيحة يومٍ باردٍ متكوماً على نفسه في مدخل النفق، كان وجهه مطمئناً، وأذنيه كثيفتي الشعر مرتخيتان ، وثمة أثرٌ لخطين من دموعٍ تحت عينيه، تذكرتك يا أمي حين أخبرتني أن الحيوانات تشعر، وتتألم، وتبكي تماماً كالبشر، تبادلت وأبي نظرةً حزينةً، قبل أن ينحني ليربت على رأسه، ويحمله بين يديه
-ابق هنا
تخيلت وهو يحث الخطى مغادراً النفق أنه سيدفنه في حديقة المنزل كما فعل بقطنا الصغير الذي مات فجأةً لا أدري لم؟ حزنت على القط أكثر من حزني على الكلب، فعلى كل حال، كان ركس قد هزل تماماً في أيامه الأخيرة، وكان يقضي الليل بطوله يعوي متألماً من كسرٍ بساقه، و جرحٍ في أعلى جبينه لم يفلح أبي في علاجه، وظل يعاود النزف من آنٍ لآخر، سمعت أبي يتمنى له الموت ليرتاح، فانقبض قلبي، غير أنني وجدته حلاً وحيداً ليهرب المسكين من عذابه المتواصل. عاد أبي بيدين ملطختين بالدماء، ففزعت، كان يمسك فراء الكلب بكلتا يديه، مده إلي قائلاً:
-ضع هذا على كتفيك
تجمدت في مكاني، وأنا أرمقه مذهولاً، فوضعه على كتفي، وقال
-سيقيك هذا الفراء الكثيف لسعات البرد
ثم انحنى يلتقط مذياعه الملقى على الأرض مستطرداً:
-الحي أبقى من الميت
في تلك الليلة، عاد قلمي إلى الحياة، وتجمدت أصابعي، لم أعد قادراً على الإمساك بالقلم لأكتب إليك، فسامحيني يا أمي...سامحيني
٣
صباح الخير يا أمي، لدي الآن الكثير من الأوراق، كومةً من أقلامٍ ملونة، أستطيع أن أكتب لك الآن ما أشاء، ودون خوفٍ من انقطاع الحبر، أيضاً سأرسم لك وجهي الذي ولابد أنك تفتقدينه كثيراً، كبرت قليلاً يا أمي، صار شعري طويلاً مسترسلاً، يغطي جبيني وينسدل حتى عيني، ومنتصف ظهري، لا تغضبي مني، أعرف أنك كنت تعتنين به، وتشذبينه حتى لا يضايقني، وحتى يصبح منظري جميلاً كما يليق برجلٍ صغيرٍ كما كنت تقولين ضاحكةً، وأنت تضمين رأسي إلى صدرك بينما ننظر سوياً في المرآة، لكنك ستعذرينني حتماً حين تعلمين أنه لا مجال لأغادر مقبرتي تلك إلا للضرورة القصوى، وأصلاً ليس ثمة حجامٌ في الجوار ليهذب شعري، قال أبي أن القذائف قد قضت على كل أثرٍ للحياة بالخارج، ولولا هذا النفق الذي حفره جدي الأكبر تحت منزلنا لسببٍ لا يعلمه إلاه، لربما كنا نحن الآن أيضاً في عداد الأموات، لدينا هنا الكثير من الطعام المجفف، يخرج أبي صباحاً، ويعود قبل أن ينتصف النهار محملاً بالكثير من العلب المغلقة، والفواكه المجففة، والشمع، وعلب الثقاب، لم أكن أعلم من أين يأتي بها حتى اصطحبني صباح اليوم معه، أيقظني مبتسماً، وأمرني أن أنتعل حذائي الجلدي ذا الفراء
-عليك أن تتعلم كيف تعتمد على نفسك
قال بينما يمسح على شعري، ثم تنهد مضيفاً:
-لا شيء مضمون الآن
فرحت جداً، إذ ستتاح لي الفرصة أخيراً لمغادرة هذا القبر، لكن فرحتي سرعان ما خبت، وانتابتني غصة...تخيلي، اختفى شارعنا تماماً! كان ثمة صفين من بيوتٍ متجاورةٍ بأسوار قصيرةٌ بيضاء، تسيج حدائقها الغنية بالنباتات، والزهور، وأشجار الفاكهة، هل تذكرينها؟ كلها اختفت، ولم يبق سوى منزلنا يقف منكمشاً كشاهد قبرٍ وسط الدمار، مشيت وأبي عبر طرقٍ غير ممهدةٍ، وحطام كل شيء حولنا تتصاعد منه الأبخرة طازجةً برائحة الموت، كان أبي ينحني ليلتقط كل ما يظن أنه يصلح لشيء ما، ويضعه في كيسٍ أسودٍ كبير، تلفت حولي بعينين باكيتين، غير مصدقتين، فوق كومةٍ من ركامٍ، وبقايا حديدٍ، وزجاجٍ مفتتٍ، كانت يوماً ما مدرستي، لمحت حقيبةً مدرسيةً، جريت إليها..انحنيت أزيل عنها الغبار،وفتحتها، كان ثمة كتباً مدرسيةً، وكراسات جديدة، والكثير من الأقلام، أعدت إغلاق الحقيبة وضممتها لصدري حين هتف أبي:
-تحرك
-أريد أن أرجع
قلت بينما أبي يرمق الحقيبة بفصولٍ، قبل أن يتنهد قائلاً
-لا بأس، يكفي هذا لليوم
٤
مساء الخير يا أمي، سامحيني، سيلزمك الكثير من الجهد لتتمكني من قراءة تلك الحروف المهتزة، والجمل الناقصة، لم أنس الكتابة، لكن هذا الوهن الشديد، والدوار الذي يعصف برأسي، جعلا أصابعي مرتعشةً، وأناملي لا تقوى على الإمساك بالقلم، أيضاً ثمة ظلامٌ كثيفٌ حولي لا يمكن لهذه الشمعة التي يتراقص ظلها كشبحٍ على الجدار أن يبدده، الكشاف الذي كان يحول ليل الخندق إلى نهارٍ يقبع في ركنٍ بعيدٍ جثةً هامدةً منذ غاب أبي، مر أسبوعٌ كاملٌ منذ خرج صباح ذاك اليوم، ولم يعد، استنفذت كل الطعام المتبقي منذ يومين، والطائرات في الخارج لم تكف عن بخ اللهب كتنانين ليل نهار، أصوات الطائرات مرعبٌ يا أمي، وأنا خائف... خائفٌ على أبي الذي خرج ولم يعد، ومن الأشباح التي تحيط بي الآن، ومن هذا الأنين الذي تبثه حيوط الخندق، حزيناً، محترقاً بالألم، ثمة بردٌ يتسلل ببطءٍ تحت جلدي..يجمد أطرافي..يجبرني على الانكماش كقوقعة، ظل الشمعة يتضاءل رويداً رويداً على الحائط، ولهبها الواهن كجسدي يلفظ أنفاسه الأخيرة، وثمة أقدامٌ ثقيلةٌ تضرب الأرض مقتربةً مني...أنا خائفٌ جداً يا أمي...خائف...
صباح الخير يا أمي، أكتب إليك وسماء هذا اليوم ملبدةٌ بالدخان، ثمة سحابةٌ كثيفةٌٌ من ضبابٍ أزرقٍ تحجب الشمس، والأشياء، تسللت الرائحة ثقيلةً حتى امتلأ بها فراغ الخندق الضيق، فاختنقت، رائحةٌ تشبه احتراق كومةً من أعواد الثقاب مرةً واحدة، حملني أبي بين يديه وجرى بي إلى الخارج، حين ضربني الهواء البارد المشبع بروائح مختلطة، سعلت، كادت رئتي تخرجان من حلقي، وانقلبت معدتي، وتقيأت، الكثير من البلغم اللزج، وماءٌ أصفر أغرق ملابسي، وحذائي، لم يكن ثمة الكثير من الطعام لألفظه إلى الخارج، فأنا منذ يومين لم آكل إلا الخبز الحافي، وبعض ثمرات الفاكهة المجففة، والماء...أشرب الكثير من الماء، بئرنا الذي حفره أبي في باحة المنزل الخلفية لم يكف عن التدفق، ولم تنل منه الغارات المتتالية، ولا القذائف التي تحيل الليل إلى نهارٍ، والنهارات إلى ليالٍ مخيفةٍ حبلى بالكوابيس، أعطاني أبي ثمرة موزٍ صغيرة، أزال قشرتها فبدت ثمرتها ناضجةً تماماً
-كل هذه، الموز يوقف القيء
ربت على كتفي، و أحضر كوباً ممتلأً بالماء، غسل وجهي، ورأسي، ثم اصطحبني إلى الداخل، كان جانبٌ كبيرٌ من سور الحديقة قد تهدم، وكان ثمة الكثير من الزجاج المتطاير في كل مكان، قطعٌ متعددة الأحجام والأشكال، وحادةٌ جداً، في الداخل كان الإطار الذي يحوي صورتنا مجتمعين، أنت، وأبي، وأختي الكبيرة، قد مال تماماً على الحائط، وشرخ طوليٌ كبيرٌ يشق زجاجه الصلب، كانت أختي مبتسمةً لا تزال، وخصلةٌ من شعرها الأشقر الناعم تغطي جبينها الأبيض، لم تكن الشظية المشتعلة قد تركت بعد هذا الثقب الأسود المحترق الذي توسطه غائراً، ينز منه دمٌ أسودٌ كثيف، وبقايا مادة بيضاء، حدث هذا في اليوم الثالث لغيابك، رأيت أبي يلطم خديه، بينما يدور حول نفسه كأسدٍ جريح، شق قميصه، وعصبه حول الرأس الذي غطاه الدم تماماً، التصقت بالحائط مرعوباً، ثم غامت الدنيا، وهويت في بئرٍ بلا قرار
٢
مساء الخير يا أمي، مرت خمس ليالٍ دون أن أكتب إليك، يصعب تمييز الليل من النهار في هذا النفق الضيق، لكنني صرت بارعاً في التفريق بينهما، حين تشتد وطأة القذائف أعرف أن المساء قد حل، أغفو على ساق أبي الذي يحاول جاهداً التقاط إشارةٍ لمذياعه الصغير في حجم كف اليد، يغير اتجاه ذراعه يميناً، ويساراً وإلى أعلى، دون فائدة، دائماً ثمة تلك الوشوشة، تتخللها أصواتٌ مختلطةٌ لا تستطيع معرفة إن كانت لبشرٍ يتحدثون، أم أنها صرخات أناس يستغيثون! تسكت أصوات القذائف فأعرف أن الصباح قد جاء، لا تزال العصافير تغرد هنا رغم الحرب، والعصافير لا تترك أعشاشها إلا حين يطلع النهار، سامحيني إن تأخرت عليك، جف مداد قلمي، وسكت تماماً، حاولت معه دون فائدة، برمته بين كفي كما اعتدت أن أفعل في السابق، ولم يستجب، قال أبي أن البرد يجمد الحبر في أنابيب الأقلام، تماماً كما يجمد الخوف الدم في العروق، لم أكن أشعر بالبرد يا أمي، لا تقلقي علي، فبعد أن مات ركس كلبنا العجوز...ألم أخبرك من قبل أنه مات؟ وجدناه صبيحة يومٍ باردٍ متكوماً على نفسه في مدخل النفق، كان وجهه مطمئناً، وأذنيه كثيفتي الشعر مرتخيتان ، وثمة أثرٌ لخطين من دموعٍ تحت عينيه، تذكرتك يا أمي حين أخبرتني أن الحيوانات تشعر، وتتألم، وتبكي تماماً كالبشر، تبادلت وأبي نظرةً حزينةً، قبل أن ينحني ليربت على رأسه، ويحمله بين يديه
-ابق هنا
تخيلت وهو يحث الخطى مغادراً النفق أنه سيدفنه في حديقة المنزل كما فعل بقطنا الصغير الذي مات فجأةً لا أدري لم؟ حزنت على القط أكثر من حزني على الكلب، فعلى كل حال، كان ركس قد هزل تماماً في أيامه الأخيرة، وكان يقضي الليل بطوله يعوي متألماً من كسرٍ بساقه، و جرحٍ في أعلى جبينه لم يفلح أبي في علاجه، وظل يعاود النزف من آنٍ لآخر، سمعت أبي يتمنى له الموت ليرتاح، فانقبض قلبي، غير أنني وجدته حلاً وحيداً ليهرب المسكين من عذابه المتواصل. عاد أبي بيدين ملطختين بالدماء، ففزعت، كان يمسك فراء الكلب بكلتا يديه، مده إلي قائلاً:
-ضع هذا على كتفيك
تجمدت في مكاني، وأنا أرمقه مذهولاً، فوضعه على كتفي، وقال
-سيقيك هذا الفراء الكثيف لسعات البرد
ثم انحنى يلتقط مذياعه الملقى على الأرض مستطرداً:
-الحي أبقى من الميت
في تلك الليلة، عاد قلمي إلى الحياة، وتجمدت أصابعي، لم أعد قادراً على الإمساك بالقلم لأكتب إليك، فسامحيني يا أمي...سامحيني
٣
صباح الخير يا أمي، لدي الآن الكثير من الأوراق، كومةً من أقلامٍ ملونة، أستطيع أن أكتب لك الآن ما أشاء، ودون خوفٍ من انقطاع الحبر، أيضاً سأرسم لك وجهي الذي ولابد أنك تفتقدينه كثيراً، كبرت قليلاً يا أمي، صار شعري طويلاً مسترسلاً، يغطي جبيني وينسدل حتى عيني، ومنتصف ظهري، لا تغضبي مني، أعرف أنك كنت تعتنين به، وتشذبينه حتى لا يضايقني، وحتى يصبح منظري جميلاً كما يليق برجلٍ صغيرٍ كما كنت تقولين ضاحكةً، وأنت تضمين رأسي إلى صدرك بينما ننظر سوياً في المرآة، لكنك ستعذرينني حتماً حين تعلمين أنه لا مجال لأغادر مقبرتي تلك إلا للضرورة القصوى، وأصلاً ليس ثمة حجامٌ في الجوار ليهذب شعري، قال أبي أن القذائف قد قضت على كل أثرٍ للحياة بالخارج، ولولا هذا النفق الذي حفره جدي الأكبر تحت منزلنا لسببٍ لا يعلمه إلاه، لربما كنا نحن الآن أيضاً في عداد الأموات، لدينا هنا الكثير من الطعام المجفف، يخرج أبي صباحاً، ويعود قبل أن ينتصف النهار محملاً بالكثير من العلب المغلقة، والفواكه المجففة، والشمع، وعلب الثقاب، لم أكن أعلم من أين يأتي بها حتى اصطحبني صباح اليوم معه، أيقظني مبتسماً، وأمرني أن أنتعل حذائي الجلدي ذا الفراء
-عليك أن تتعلم كيف تعتمد على نفسك
قال بينما يمسح على شعري، ثم تنهد مضيفاً:
-لا شيء مضمون الآن
فرحت جداً، إذ ستتاح لي الفرصة أخيراً لمغادرة هذا القبر، لكن فرحتي سرعان ما خبت، وانتابتني غصة...تخيلي، اختفى شارعنا تماماً! كان ثمة صفين من بيوتٍ متجاورةٍ بأسوار قصيرةٌ بيضاء، تسيج حدائقها الغنية بالنباتات، والزهور، وأشجار الفاكهة، هل تذكرينها؟ كلها اختفت، ولم يبق سوى منزلنا يقف منكمشاً كشاهد قبرٍ وسط الدمار، مشيت وأبي عبر طرقٍ غير ممهدةٍ، وحطام كل شيء حولنا تتصاعد منه الأبخرة طازجةً برائحة الموت، كان أبي ينحني ليلتقط كل ما يظن أنه يصلح لشيء ما، ويضعه في كيسٍ أسودٍ كبير، تلفت حولي بعينين باكيتين، غير مصدقتين، فوق كومةٍ من ركامٍ، وبقايا حديدٍ، وزجاجٍ مفتتٍ، كانت يوماً ما مدرستي، لمحت حقيبةً مدرسيةً، جريت إليها..انحنيت أزيل عنها الغبار،وفتحتها، كان ثمة كتباً مدرسيةً، وكراسات جديدة، والكثير من الأقلام، أعدت إغلاق الحقيبة وضممتها لصدري حين هتف أبي:
-تحرك
-أريد أن أرجع
قلت بينما أبي يرمق الحقيبة بفصولٍ، قبل أن يتنهد قائلاً
-لا بأس، يكفي هذا لليوم
٤
مساء الخير يا أمي، سامحيني، سيلزمك الكثير من الجهد لتتمكني من قراءة تلك الحروف المهتزة، والجمل الناقصة، لم أنس الكتابة، لكن هذا الوهن الشديد، والدوار الذي يعصف برأسي، جعلا أصابعي مرتعشةً، وأناملي لا تقوى على الإمساك بالقلم، أيضاً ثمة ظلامٌ كثيفٌ حولي لا يمكن لهذه الشمعة التي يتراقص ظلها كشبحٍ على الجدار أن يبدده، الكشاف الذي كان يحول ليل الخندق إلى نهارٍ يقبع في ركنٍ بعيدٍ جثةً هامدةً منذ غاب أبي، مر أسبوعٌ كاملٌ منذ خرج صباح ذاك اليوم، ولم يعد، استنفذت كل الطعام المتبقي منذ يومين، والطائرات في الخارج لم تكف عن بخ اللهب كتنانين ليل نهار، أصوات الطائرات مرعبٌ يا أمي، وأنا خائف... خائفٌ على أبي الذي خرج ولم يعد، ومن الأشباح التي تحيط بي الآن، ومن هذا الأنين الذي تبثه حيوط الخندق، حزيناً، محترقاً بالألم، ثمة بردٌ يتسلل ببطءٍ تحت جلدي..يجمد أطرافي..يجبرني على الانكماش كقوقعة، ظل الشمعة يتضاءل رويداً رويداً على الحائط، ولهبها الواهن كجسدي يلفظ أنفاسه الأخيرة، وثمة أقدامٌ ثقيلةٌ تضرب الأرض مقتربةً مني...أنا خائفٌ جداً يا أمي...خائف...