» » انتحــــــــــــــــار- بقلم الكاتب- حدريوي مصطفى العبدي

بدأ الليل يجمع ذوائبه ، وجعل الفجر يدب على الأرض يجر سرباله النوري وراءه، عندئذ انتفضت ساعته البيولوجية بين صدره وهم بالصياح ، لكنه لم يستطع ؛ لقد كان متعبا جدا، جدا. جسده النحيل لم يحتمل الهزات العنيفة للعربة على الأرض الكدود ، وطول الرحلة لم يمنحه مندوحة راحة ولحظة غفوة.

ألف أن يستيقظ باكرا ويخرج هائما بين الحقول والمزارع ولا يعود إلا والشمس نائمة على سرير الأفق. اليوم، لا يستطيع ! قضبان متينة تحول بينه وبين ذلك ؛ حاول تكسيرها ؛ الخروج من بينها لكنه لم يفلح . جال بنظره مئة وثمانون درجة أفقيا ورأسيا بحثا عن كوة أو منفذ منسيّ ، لكن حلما كان طالبا!
قعقعة في كل الاتجاهات ومن كل حدب وصوب تفد إليه ؛ تثبت له أنه ليس لوحده وأن المكان متقاسم معه.
"
من يكون هؤلاء، ومن أين أوتي بهم هل رحلوا كما هو؟ أم حُمّلوا من الجوار ؟ " تساءل ...
تيقن أنهم مثله ، يقاسمونه الرائحة والصراخ ..والصياح ، قد يكون بينهم أقارب له قطعا ؛ ضوء الصباح سيكشف له ما دثر الظلام .أليس الصبح بقريب ؟!
استطاب غفوة ، وانجر وراء عذوبتها فأغمض عينيه البراقتين الحمراوين غير أن صوت أقفال تفتح، وصرير مصارع تسحب، وأبواب تشرع ؛ سامحة لجيوش النور بالدخول ، توقظه، فيشرع في استطلاع الأجواء.
كان المكان وسخا ،عفنا يأكل فضاءه زنزاناتٌ تفوح نتنا؛ ومن خلال قضبانها كانت تنظر إليه عيون صفراء فاقعة بغرابة ، تجاهلها وانشغل بالرجلين المنغرستين في جزمة عسكرية لفاتح الأبواب. هاله كبرهما ، لا شك أن صاحبها عملاق ! اقتربتا منه فلمس عن كثب ضخامتهما...لم ير صاحبهما لكونه في وضع لا يسمح له بذلك ..
تابع العملاق ، السجان وهو يتفقد الزنزانات راميا إلى ضيوفها من بين القضبان طعاما غثا... و صابا ماء آسنا في دلائها ، ولما أتم... استرخى على كرسي هزاز ...
وقفت سيارة سوداء في الساحة الأمامية ، ترجل منها رجل ببذلة سوداء ونظارة سوداء وحذاء أسود، همهم لصاحب الكرسي الهزاز بكلمات غير مفهومة ظهرت كأنها طلاسم تبين منها فقط عدد خمسة عشرة . توا فُتحت زنزانة أمامه مدت اليد القوية أخرجت واحد ،اثنان ... خمسة عشرة.
الصراخ والهروب والانزواء ما عطلوا عملية السحب بل كانت منتظمة كشيء مخطط له سلفا .
لحظة ، و توقف الصراخ وهيمن على المكان صمت رهيب كما هيمنت رائحة نافذة لدم ممزوجة ببول وبراز جعلته يرتجف يبكي صامتا... لقد عرف ما وقع ...أما جيرانه فقد استكانوا هنيهة كأنهم عبروا عن إحساسهم بدقيقة صمت ثم عادوا إلى الأكل . وكأن شيئا لم يكن...
دقائق ؛ وعاد صاحب الهزاز إلى مكانه وطفق يؤرجح جثته كنواس. !.
ركز نظره عليه مرعوبا مرتجفا... مسكين، لم يبق يسيطر على فرائصه ؛ قد أضحى أ قرب إلى ورقة في طريق تيار مروحة. ففكر في أن يشغل نفسه بعدّ أرجحات الرجل عله ينسى ما رأى ويهدأ روعه.. واحدة ، اثنان ثلاثة....مائة. توقف العد فتسارع الوجيف...واستعرّ في داخله الرعب...
لقد قام من جديد هاشا، باشا نحو رجل . عانقه عناقا حارا وكأنه يعرفه ثم تبادلا كلاما مبهما لم يُتبين منه شيء إطلاقا..وعاد وفتح زنزانة أخرى أخرج منها ما أخرج ...لم يعد يريد أن يعدّ إنه مل العد... ومن جديد دم و...و...ودقيقة صمت....
ظلت الطاحونة تطحن طيلة اليوم ، وظل في دوامتها يدور، ويدور يلوك الذعر، يحايل الجلد ألا يتخلى عنه ، وفي داخله كانت سنفونية من الشجن والألم تعزف لحنا من دموع تبخر بللها وتبلور ملحها أجاجا على المآقي تمطى ! آه ما أمر الدمع الجاف !
جال بنظره ، لا عيون صفراء فاقعة تراقبه تتابع حركاته... انمحى أثرها كأنها لم تكن، ودرس جرسها في المدى ؛ كأنها ما مسحته ببريقها
ارتاح لما رأى أشعة الشمس الحمراء الغاربة تلامس جدران زنزانته معلنة قدوم الليل ...وما أعذب الليل حينما يضمد الجراح وتمنح ظلمته مساحة أمل !
جثا على الأرض الوسخة ، أحس ببرودة بلله تلسعه ، فشعر بالمهانة تدوس كبرياءه وتمحق همته المتعالية فصارت تتقزم ، تتقزم كخيط مطاطي مد وتراجع إلى أصله..استوى فتسربت إلى جسده برودة الأرض أيضا ...لم يعرها اهتماما فما به من الجهد والعياء والألم النفسي أعظم وخزا من البرودة ذاتها.
أطل عليه الرجل ذو الكرسي الهزاز؛ إنها أول مرة يرى خلقته ...كان فارع الطول كما تصوره، وجهه تأكله لحية لثلاثة أيام ، يرتدي بذلة زرقاء تغطيها بقع كثيرة متناثرة على أرجائها ، إنها وبلا ريب آثار دم وسوائل حيوية... تقزز منها وتقزز أكثر حين رأى فيها الصورة التي سيصبح عليها بعضٌ منه بعد اجل...نائم في حضن غيب !
أمسك العملاق القضبان بكلتا يديه وأسند رأسه على القفص وصار يتأمله ...
ظل الاثنان صامتين . ما جال في خاطرهما ؟ ربما ما يجول في خاطر السجان والسجين ؛ قد تختلف الأمكنة ولكن الأحاسيس تظل ثابتة لحظات وجيزة وانصرف، تابع خطوات رجليه العظيمتين المنغرستين في الجزمة الجلدية العسكرية حتى اختفى عن نظره.
سمع بعد حين يسير ماء يُصب ومعدنا ما، يُحك مع معدن، لم يهتم، حاول أن ينام لينعم بلحظة من السكينة والسلوى تلهيه ، تنسيه مما هو فيه من العذاب ، بيد الحك تواصل، تعالى أصبح فوق المحتمل، سد أذنيه ولكن ما أفلح في قهر ذاك الصوت اللعين ...تساءل :" ما يفعل ابن ال....هذا ؟ "
بدأ يفرض الفرضيات ويطرح الأسئلة ، ويجيب ويصنف ، ويبعد ما يراه أن يبعد والحيرة ترافقه...ما وجد جوابا مقنعا لتساؤلاته فسلم أمره للوضع وقال: " صداع الحك أهون من صداع التساؤل "
أغمض عينيه محاولا إيجاد عالم افتراضي أفضل مما هو فيه فترادفت صور اليوم الدامية عليه بكل تفاصيلها وصور أخرى مريعة، دفعها بكل ما أوتي من الخيال لكنها عنيدة كانت تتوارى ثم تعود تتقافز أمامه كضفادع ، رأى بساطا أحمر ينطوي كشريان ثم يتكور على شكل طماطم كاملة النضج ويعود لحاله وطفلة بدون وجه تحاول وخزه بطاقم من المدى رفيعة الظبى لامعته ؛ ذكرته بالشحذ فانتفض واقفا مذعورا مغمغما : " إن هذا الوغد حتما يعد لي العدة ، لا شك انه ذابحي اليوم ومقطعي إربا، إربا ما أغباني ! إنه ـ قطعا ـ يشحذ سكاكينه الآن وذا الحت أصدق دليل."
أخذ يذرع مساحة زنزانته جيئة وذهابا مطأطئ الرأس مضطرب الفكر، فؤوس من اليأس تهد ما انبنى في حناياه من تباشير العشي. أحس نفسه محاصرا بين أمل كاذب وحتف محتوم على مرمى حجر منه ونفسه يهزها هز الريح ذعر بلا حدود ...
من غير تردد تسلق قضيبين وأدخل رأسه بينهما ومده مد نابض وأدخله في ثالث وصاح صيحة رفيعة جميلة ما صاح مثلها من قبل ، جلجلت في المكان هنيهة ثم أرخى قبضته. انعصر العنق بين القضبان عصرا وانفلت الجسد النحيل هاويا على الأرض ...انتفض لحظة ثم همد...
بقايا من الأشعة الغاربة لامست جسده ، فبدا كبساط زاهي الألوان ، وعرفه استطال كأنه ازداد طولا وحمرته القانية أضحت أكثر إشراقا من شقائق النعمان.

عن مجلة الثقافة العربية أزمان هاشم

مجلة الثقافة العربية - مجلة أدبية -شاملة - - نهتم بكافة النصوص الأدبية سواء كانت شعر أو نثر أو قصة أو مقال إلخ -- نمد إيدينا لنشر جمال اللغة العربية لغة الضاد ومساعدة المواهب الأدبية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبادة الفيشاوي
»
السابق
رسالة أقدم
«
التالي
رسالة أحدث
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد

close
Banner iklan disini