» » التمثال/بقلم - ميسون السعدي




لو كان يدري ما سوف يكون لأخذ من يدها من تحتضن ...

عاد به قلقه عليها إلى ما مضى.

تذكر:

ضمت التمثال الخشبي الصغير بين يديها متذكرة تحذيرات أمها من سقوطه.

كان لديها لعبتان أو أكثر، تركنهم في زاوية خزانتها غير عابئة وتعود إليه. لا أعرف مبعث تصرفاتها، الشوق لأبيها أو شغف الأب بالرجل النحيل الذي تجسده قطعة الأبنوس.

أمسكتْ قطعة القماش المبللة بالزيت الممزوج بالخل، دهنت الخشب به حتى تألق ولمع. وضعت التمثال الصغير في مكانه بلطف، رابتة على رأسه ووجنتيه

اليوم .. من مكانه رصدها تمشي كما كانت تفعل صغيرة، باتجاه التمثال الخشبي حيث وضعته آخر مرة.

أدارت رأسها باتجاه الضوء ... لمحت جذور شعرها تلمع بيضاء في زجاج مرآة مثبتة على الحائط القريب، تنهدت تنهيدة صغيرة، لم ترد أن تحملها الكثير من الحزن، فقط هو النزق وضياع الأيام دون طائل.

اقتربت منه ... ضمته إلى صدرها، تريد أن تخبره شيئا لا يقال لغيره.

سأفعل ما يجب فعله ... التفتتْ إلى الوراء، لم يكن هناك أحد ... أكملت قائلة:

كان يجب فعل هذا منذ زمن ... لكن أنت تعرف .... نظرتْ إليه .. كان خشب الأبنوس يطالبها ألا تكمل اعتذارها.

أعادته مكانه ... مسحت دمعتين سالت على وجنتيه الخشبيتين من عينيها، لمست كتفه موقعة إتفاقا بينهما وخرجت.

تابع حركاتها وملامحها ... لو درى أن التمثال سيمنحها توق وأحلام صاحبه،أنه سيقلق حياتها ويدبغ أيامها بالحزن وقلبها بالخفقان المر ، لمَا تركه في حضنها تمنحه الحنان ويمنحها الأحلام كل سني طفولتها الهادئة الساكنة ! . يرسم خطوات مستقبلها، لكن من أين له أن يعرف ... من أين !؟ .

الآن لم يعد بالإمكان فعل شيء .. هز رأسه وخرج

سمعت قلقه، لمحته يخرج ...هزت رأسها....نعم لايمكن فعل شيء مع قلبي اليوم ... تأخر كثيرا عما يجب عليه ويحب فعله.

حزمت فراشها الإسفنجي ... حاولت رفعه بيديها ... وجدته خفيفا ... انفرجت أساريرها. لبست، خرجت تجر ما حزمت بيدها.

اقتربت من مركز إيواء من تهجروا من بيوتهم ... كان أحدهم ينتظرها خارجا ... لوحت له بيدها مبتسمة.

هل تستطعين أقناعهم يا سيدتي؟ .. قال باستكانة وحياء .

- أتدري؟ ... دائما تبدد خجلها واضطرابها بتوجيه سؤال لا معنى له ...

- ماذا؟ ....

- أنا أحضرت لك فراشا وبعض أشياء ضرورية ... وجدتُ هذا أسهل من إقناعهم. قالت هذا شاعرة بالرضى.

- لا .. لا .. أنتِ لم تفهمينني .. أنا أريد منهم أن يخصصوا لي في الغرفة مكان فراش كي أنام فيه.

- ماذا ؟! ..مكان فراش !.. مكان فراش ! .. رددت مستغربة ..لكنك لم تقل لي هذا !.

استعادت الدردشة بينهما على جوالها ... نعم ...

لقد طلب منها أن تقنعهم بإعطائه مكانا يفرد فراشه فيه كي ينام فيه هو وأبنه.

لا تدري كيف توصل لمعرفة صداقتها ببعض المسؤولين.

قالت معتذرة: نعم قرأت ذلك .. على مايبدو كنت بعيدة عما يجري .... لم أفهم، تعرق وجهها خجلا، نظرتْ إلى الداخل حيث قُسمت الغرف بسواتر تعطي جزءا من الخصوصية، بدت السواتر شفافة لعيونها ...

رددت ... ما زلتُ بعيدة ... مازلتُ بعيدة ... شعرتْ بعيون التمثال وعيون أبيها تثقب رأسها.

بحثت عن مشرف المركز، لمحته ...

- أريد أن أبقى هنا .. معكم .. أستطيع مساعدتكم، أرغب بهذا كثيرا.

أجابها دون أن ينظر ... لا يمكنك ذلك، المكان يغص بنا .. ألا ترين !؟ .

لم تدعه يكمل اعتراضه.

حسنا، قالت ذلك ببطء محاولة رسم ابتسامة باهتة.

سحبت نفسها نحو أدراج تغص بالمهجرين.

تابعها صوته بإلحاح: سيدتي لا مكان للفراش الذي أحضرتِ .. لدينا الكثير من الأغطية والفرشات ..

اليوم نحن نحتاج مكانا .. مكانا ، أكثر من أي شيء آخر .

نحتاج مكانا لها ولنا.

من بعيد لوحت يدا التمثال لها لتحضنها من جديد.

كانت يدا غاندي ملوثتين بأوساخ المراحيض وهو يُعلم من حوله الحياة في جنوب أفريقيا ... نعم في الهند حينا وفي بلد آخر حينا، متنقلا بين مواطنيه من البلاد المختلفة لوطن أتخذ شكل كرة ... استلقى متعبا وابتسامة رضى على وجهه، متذكرا أن الجزء القليل من هذه الأرض الحزينة يابسة فقط. لو كانت اليابسة أكبر ... لم يكمل ... أدركه النوم سعيدا بكرته الأرضية ويابستها ومائها.

أقفلتْ عينيها على تلك الذكرى.

أنا كنت أحتضن تمثالا ... هذا سبب بعدي وغبائي ... نقل إليَ فقط جمال الحلم ... تركني بعيدة عاجزة مستمتعة بحياة سهلة. ردد قلبها ما قاله المشرف: نحتاج مكانا لها ولنا ...

رددت بغضب (لامكان لكِ).

تساءلتْ: إذا لماذا كانت تلك الطفولة ..  يد العبث جعلت أبي يركن تمثال غاندي على طاولة في بيتنا عشرات السنين !؟، جعلتني أحضنه فوق صدري كل تلك الأيام وأنا كما أنا لا أستطيع فعل شيء.

عبث ... هزت الكلمة هواء الغرفة .. عبث .. أعاد لها التمثال الجواب جازما ويداها ما زالت تحضناه: بالتأكيد أنت مخطئة .. لقد بدأتِ اليوم حلمكِ ..

جهزي يديك كي تعلق بها الأوساخ .. ستكون قاسية مثلومة تغسلين وجهك بها كل يوم ...

وقلبي !؟ .. سألت ...

ابتسم ... سيشرق ... لن تستطيعي اللحاق به ...

- إذا هناك لي مكان !؟ ...

-دوما ... هناك مكان لمن يبحث. ابتسم عائدا متسمرا على طاولته ..................

عن مجلة الثقافة العربية أزمان هاشم

مجلة الثقافة العربية - مجلة أدبية -شاملة - - نهتم بكافة النصوص الأدبية سواء كانت شعر أو نثر أو قصة أو مقال إلخ -- نمد إيدينا لنشر جمال اللغة العربية لغة الضاد ومساعدة المواهب الأدبية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبادة الفيشاوي
»
السابق
رسالة أقدم
«
التالي
رسالة أحدث
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد

close
Banner iklan disini