» » المثقــــاب والقصيــــدة- بقلم – محمود عمر خيتي







كان جاري أبو النور مساعد مهندس متقاعدًا، وكان يصرف طاقاته الخلاقة في إعادة تصميم منزله، ولبث على ذلك زمنًا ليس بقليل. كان يحمل في يده مثقابًا كهربائيًا وينتقل في بيته من جدار إلى جدار يضيف عشرات الثقوب تمهيدًا لتعليق لوحات اشتراها من دكان يبيع مخلفات المنازل المهترئة.. فإذا انتهى أعاد النظر فقرر إصلاح الجدار وطلاءه ثم إعمال المثقاب الكهربائي فيه على نحو أجمل وآنق

في الجوار كنت أحمل قلمي وأضعه مرارًا وأنا أحاول أن ألتقط أفكاري الشعرية لصياغة قصيدة جديدة تحرق دماغي وتريد أن تولد فلا تستطيع. شكوت لجاري أبي النور صوت مثقابه المزعج ألف مرة، وعبثًا أحاول أن أقنعه بالكف عن الضجيج، فما إن يهدأ لدقائق حتى يعاود النشاط والإزعاج... 


وكان ما كان ومر الزمان حتى انصبّ فوق رأسي ورأس جاري أبي النور وابل من رصاص لا يرحم ولا يني ولا يتوقف... هربتُ مع عيالي من جحيم القذائف إلى دولة مجاورة، وهرب جاري أبو النور مع عياله أيضًا مخلفًا وراءه منزله المزدان باللوحات والصور والتحف

ومرت السنوات العجاف ورماني القدر أنا وعيالي في خيمة جميلة بين مئات الخيام الأخرى في مخيم مستحدث لأمثالنا، وصرت أكتب أشعاري في سكينة وهدوء، إذ لا كهرباء ولا ضجيج ولا إصلاحات. وفي ساعة من ساعات المخيم الطويلة خرجتُ من خيمتي أبحث عن رجل أنشد على مسامعه قصيدتي الجديدة، فإذا بي أقع بين يدي مفاجأة كبيرة، فها هو جاري أبو النور وقد صار مثلي نزيل المخيم، يا للدهشة


فرحتُ فرحًا لا مثيل له بوجود جاري هنا، وفرح جاري أبو النور أيضًا عندما علم أني نزيل قديم في المخيم نفسه. ومشينا معًا أقص عليه قصتي ويقص عليّ قصته، نتبادل ذكرياتنا ونحنُّ معًا إلى الماضي الجميل فنضحك مرة ونبكي أخرى، ومكثنا على ذلك ساعتين أو ثلاثًا... ثم استأذنته واستأذنني، فمضيت أنا أبحث عمن يسمع قصيدتي، ومضى جاري يبحث عن جدار لمثقابه الذي كان ما يزال بيده... 

عن مجلة الثقافة العربية أزمان هاشم

مجلة الثقافة العربية - مجلة أدبية -شاملة - - نهتم بكافة النصوص الأدبية سواء كانت شعر أو نثر أو قصة أو مقال إلخ -- نمد إيدينا لنشر جمال اللغة العربية لغة الضاد ومساعدة المواهب الأدبية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبادة الفيشاوي
»
السابق
رسالة أقدم
«
التالي
رسالة أحدث
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد

close
Banner iklan disini