» » هل كنت تعلم ؟ ..بقلم الشاعر أحمد عبد الحليم قطيش

كيف تكونت اللهجات العربية المحكية؟


قد يعتقد الكثير منا أن ظهور اللهجات المحكية ظاهرة حديثة نسبيا مرتبطة بالانحدار الحضاري للأمة العربية الإسلامية في القرون القليلة الفائتة.
       بينما الحقيقة  المؤكدة علميا وتاريخيا أنها ظاهرة قديمة تمتد في عمق الزمان إلى ماقبل الإسلام بمدة كبيرة تحديدا إلى فترة انبثاق اللغة العربية الفصحى لأول مرة قبل الإسلام بثلاثة قرون ونصف القرن تقريبا متطورةً عن اللهجة العربية النبطية أو لنقل هي عينها النبطية الحديثة التي سادت  في جنوب بلاد الشام وغرب العراق بعد عام 250 للميلاد 
      ويتمثل أشهر نماذجها الأولى بنقش النمارة الذي اكتشف في بادية الشام في  محافظة السويداء السورية وهو شاهد قبر ملك الحيرة امروء القيس البدء بن عمرو اللخمي المؤرخ بسنة 328 م مايوافق 300 قبل هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم 
           بمعنى أن تنوع اللهجات هو عامل مصاحب لنشوء اللغة العربية الحديثة أساسا. 
        واللغة العربية التي نعنى هي اللغة العربية الشمالية أي لسان نزار كما كان يسمى وهو يختلف كثيرا عن لسان حمير اليماني الذي كان يسود شبه الجزيرة العربية وقتئذ
وهو الذي انحسر قبيل الإسلام في بعض مناطق اليمن فحسب
          ولقد تحدث اللغويون كثيرا عن اللهجات العربية الشمالية في كتبهم التي صنفوا والتي أشاروا إليها باللغات تمييزا للمصطلح (اللغة) عن اللغة  في مفهومنا الحديث والتي كانت تسمى في عرفهم ألسنة وكان من هذه اللهجات لغة تهامة وربيعة وتميم وأسد وطي وغير ذلك كثير
        وأفردوا لكل لغة منها مسمى مشتق من أحدى ظواهرها الصوتية مثل كشكشة ربيعة وقد كانوا يلحقون حرف إتش بآخر الكلمة في خطاب المؤنث وهي ظاهرة لازالت ماثلة في كثير من لهجات المشرق لعربي اليوم وكذلك الاستناطء عند تميم  وهو أن يقول أحدهم  أنطني بدلا من أعطني وكذلك العنعنة عند تميم وقيس وأسد وهي قلب الهمزة عينا وغير هذا كثير مما نقله لنا أهل اللغة في العصر العباسي ومابعده
       وتنوع اللهجات العربية في العصر الجاهلي غالبا هو المسئول عن  كثرة المترادفات في لسان الضاد وكذلك في ظاهرة الأضداد مما زاد في إثراء اللغة وكثافة محصولها المفرداتي
        والآن فماهو حال اللهجات المحكية في عصرنا الراهن ؟ وماهي صلتها بلهجات عرب الجاهلية ؟ وماهي العوامل التي آلت بها إلى هذه الحال
            اللهجات المحكية حاليا تتعدد بكثافة كبيرة بحيث تعد أضعاف عدد الأقطار العربية إذ يصعب على الباحث حصرها فضلا عن دراستها ولكن نستطيع أن نصنفها في مجموعات لهجية أو لنقل لهجات رئيسية قليلة العدد
      وهي بدءا بالشرق إلى الغرب / العراقية وتضم لهجات العراق والأحواز والكويت والجزيرة الفراتية / الشامية وهي لهجة أهالي المدن في أقطار الشام الأربعة / اليمانية وهي لهجة أهالي اليمن وغرب عمان وجنوب العربية السعودية / النبطية وهي اللهجة البدوية المشرقية وتضم اللهجات الخليجية ولهجات أهل الحجاز ونجد ومعظم السعوديين وشرق الأردن والبدو في بلاد الشام وشبه جزيرة سيناء وبضعة جيوب قليلة في بر مصر/ اللهجة المصرية وتضم الصعيدية والقاهرية ولهجة أهل الدلتا وهي لهجة الأغلبية الساحقة من المصريين / السودانية وتضم لهجة شمال ووسط السودان والنوبة المصرية ( وهذه غير لغتهم النوبية ) وكذلك قبائل البجة في مصر والسودان / لهجة القرن الإفريقي وهي الموجودة في جنوب السودان وارتريا والحبشة والصومال إلى جانب اللغات المتوطنة مثل لغة الدنكا والأمحرية والتيغري والعفارية والصومالية والسواحلية / اللهجة المغاربية وتضم أهالي لمغرب العربي الكبير كله إلى جانب أبناء الصحراء الغربية في مصر وأهالي الواحات عموما لاسيما واحة سيوة / وأخيرا المالطية وهي بلاشك لهجة من لهجات العربية كما يدرك ذلك أي سامع لها ومن الوهلة الأولى
  والسؤال الذي نختم به حديثنا هو
ماهي العوامل التي أدت إلى انبثاق هذه اللهجات بحالتها الراهنة
وبرأيي هي كالتالي
         أولا : أثر اللهجات العربية القديمة ( لغات الجاهلية ) بحيث نقلت كل قبيلة بعض لهجتها إلى موطنها الجديد في أصقاع وطننا العربي ومثال على هذا ظاهرة الجيم المصرية أو القاهرية فهي قد انتقلت مع قبائل يمانية كانت تسكن شمال الحجاز ووسطه كجهينة وعذرة وعك وهي تحديدا القبائل التي أسهمت بالقسط الوافر من الرجال في فتح مصر هذا يفسر اشتراك مصر والحجاز واليمن بهذه الجيم
          ثانيا : أثر الألسنة الشقيقة مثل الآرامية والمصرية القديمة والأمحرية والتيفيناغ ( الأمازيغية الأم ) وكذلك الحميرية اليمانية وهي لغات شقيقة للعربية في عائلة اللغات العروبية وكان أثرها كبيرا وحاسما نظرا لقرابتها الوثيقة من العربية الفصحى ومثال على هذا الأثر هو ظاهرة الدرج أو تقارب وتسارع الكلمات في النطق لدى أهلنا المغاربة وكذلك حذف حرف التنبيه من كلمة هذا وهذي وإبدال الدال بالذال في كلمة (ده ودي) وهو المشتهر في اللهجة المصرية.
         ثالثا : أثر اللغات الأعجمية عبر التاريخ الإسلامي قبل عصر الانحدار ومن هذه اللغات الفارسية والتركية والإغريقية ويتمثل هذا على سبيل المثال في عشرات الكلمات ذات الأصل التركي في معظم اللهجات الحالية وكذلك إبدال مكان المضاف إليه بمكان المضاف ومنها كلمة سفر طاس في بلاد الشام وهي صيغة تركية أصلها العربي طاسة السفر .
        رابعا : أثر لغات المستعمر الإنجليزية والفرنسية والأيطالية والإسبانية وسأمثل بكلمات قليلة على هذا  ككلمة غلاس الإنجليزية في لهجة أهل العراق للدلالة على الكأس وكلمة غازان للدلالة على الخزان في كلام أهل الشام وغيرها كلمات كثيرة بوتيك نوفوتية ....الخ
        خامسا : وأخيرا أثر ظاهرة العولمة ولنقل أنها ظاهرة الأمركة المنبثة من أمريكا قائدة معسكر الحضارة الغربية بحيث نرى الكلمات الأنجليزية وبلكنتها الأمريكية تجتاح ألسنة وأذهان النشء العربي وتأمرك الذوق والمزاج  ولاحول ولاقوة إلا بالله
       فاللغة العربية الفصحى هذه لم يكن يتكلم بها وقتئذ إلا أهل تهامة الحجاز مكة وماحولها بينما غدت هذه اللهجة لغة الشعر والخطابة أي اللهجة العربية العامة المشتركة للعرب ككل تكونت في المواسم والأسواق وفي الحج ولنقل أنها لهجة أهل تهامة ولهجة الأدب فحسب وليست هي لهجة كل العرب وقتها وبهذا هي أصلا لم تكن وحيدة وقتها بل كان الاختلاف موجودا واللهجات موجودة والطبيعي في عصرنا أن يزيد الاختلاف لا أن يقل ولولا وجود القرآن لغدت اللهجات العربية لغات مستقلة كما حدث مع اللاتينية اذ تولد منها الايطالية والفرنسية الاسبانية والبرتغالية والرومانية والرومانشية ولا احد من أهل هذه اللهجات يفهم اللهجة الأخرى الآن إلا بالتعلم
 أرجو أن أكون قد قدمت إليكم ولو شيئا يسيرا من الإفادة أحبتي كونوا بخير
طاب مساؤكم بكل الخير جميعا

أحمد عبد الحليم قطيش

عن مجلة الثقافة العربية رهيف السريحيني

مجلة الثقافة العربية - مجلة أدبية -شاملة - - نهتم بكافة النصوص الأدبية سواء كانت شعر أو نثر أو قصة أو مقال إلخ -- نمد إيدينا لنشر جمال اللغة العربية لغة الضاد ومساعدة المواهب الأدبية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبادة الفيشاوي
»
السابق
رسالة أقدم
«
التالي
رسالة أحدث
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد

close
Banner iklan disini