أشعل سيجارته، وأخذ نفسًا عميقًا وقال والدخان يمتزج مع كلماته : الصيد يحتاج إلي صبر.. ثم ضغط علي زر الكشاف وسلط ضوءه على الماء، وأشار إلي مساعده أن تحرَّك.. وراح المساعد يجدف بهدوء، كنا أشبه بمفترس يتحين لحظة غفلة من فريسته.. القارب يزحف، والعتمة تتسلل.. تحكم قبضتها في غياب القمر، حتي النجمات التي على البعد تحجب نورها، وتطل علي استحياء وكأنها تتعاطف معنا.. الكلام همسٌ، وغالبًا بالإشارة، وكل استفسار يُجاب بكلمة واحدة، وأحيانًا لايُجاب عليه.. وجه ضوء المصباح إلى الأحراش التي على الشاطئ؛ فجفلت بعض الطيور التي تسكنها وطار بعضها.. أطفأ المصباح ليعم الظلام إلا من وهج سيجارته والتي كانت تتوقَّد كلما أخذ نفسًا وقال : لنتناول كوبًا من الشاي ريثما يسكن النسيم
قلت : مال النسيم والصيد ؟
قال : يحرك سطح الماء فتضعف رؤيتنا
جنح المساعد ناحية الشط، أخرج موقده، وأشعله، ثم وضع براد الشاي عليه، بينما راح هو يجهز لفافات من الخبز والجبن ناول كل واحد لفافة وقال:
لايُحرَج أحد من طلب المزيد.
كان الشاي قد نضج، وحمل النسيم رائحته؛ فأفاقتنا ، ورغم تمكن الظلام إلا اننا اعتدنا عليه وصرنا نري الاشياء أكثر وضوحًا.
النسيم يداعب وجه النهر، ووجوهنا، ويحمل إلينا رائحته والنجوم كما هي إلا أنها بدت أكثر بعدًا، وفوق رؤسنا تحلق بومة مثلنا في حذر وصغار الأسماك تتقافز حولنا ببراءة الأطفال وغفلتهم ، وفي وسط النهر ارتفع الماء، وانداح مُحدثًا جلبة فالتفتنا جميعا...
قال وكأنه استشفَّ مافي نفوسنا : هذه أكبر من قدرتنا
وأكمل، في النهر أسماك لاتقدر عليها إلا المراكب الكبيرة
لم يعقب أحد، ولأول مرة أتمنى أن يسكن النسيم، ويطول غياب القمر
قلت: وهل يستمر النسيم كثيرًا ؟
قال: ربما دقائق ويسكن
وما إن انتهى من كلامه حتي سكن النسيم؛ فأشار إلى مساعده أن تحرَّك.
تحرَّك القارب بحذر، بينما وجه مصباحه إلي الماء ...
فجأة أشار لمساعده أن يتوقف وهمس إلي : انظر.. هل تراها ؟
قلت: نعم إنها تربو على الخمسة كيلوغرامات.
قال: بل تزيد
أنزل هلبه بحذر بجوارها إلى أن وازاها، ثم ترك الخيط ليتعداها وبكل قوته جذب الخيط باتجاه السمكة ليصعد الهلب لكن بدونها.. تفحص الهلب وقال : لقد خدشها وخلص قشرة من قشورها من سن الهلب ناولها إلي
تفحصتها وقلت : بالفعل كبيرة
أعاد مصباحه إلى الماء، وهمس : مازالت موجودة.. لم تتحرك
قلت متعجبًا: رغم أنها كبيرة وأصابها الهلب
قال : إنها غطرسة الكبار، وأردف.. لكل كبير غلطة
أعاد المحاولة لكن الهلب أخطأ السمكة، وهربت هذه المرة.
تحرك القارب، وتعددت المحاولات لكن الحظ لم يحالفنا.
كانت قبضة الظلام قد وهنت أو كادت، وحمل لنا الهواء بشائر النور ورحنا نتحرك بيسر بعدما صادقنا الليل..
ودَّعناه مع وعد منه بجولة أخرى نكون فيها أكثر حظًا.
بلغنا البيت مع الفجر،
وفي الصلاة تمنيت الصبر، وتمنيت الرزق الوفير، وترددت كتيرا في أمنيتي الثالثة،
لكني تمنيتها..
أن تكثر أخطاء السمك... لاسيما السمك الكبير.


0 التعليقات

