ولد أبو القاسم الشابي في يوم الأربعاء في الرابع والعشرين من فبراير عام 1909م الموافق الثالث من شهر صفر سنة 1327 هـ وذلك في مدينة توزر في تونس وهو من أبناء القرن العشرين الذين نشأوا فيما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، أيام كان العالم العربي يتعثر بين حاضره الأليم، وماضيه القريب المنقوص، ودعاة الإصلاح وأنصار الجديد في تلك الفترة الانتقالية، إنما يلقون جحودا وأذى لا تزيدهما سيطرة الغرب على الشرق ، وشموخه بحضارته، ووثوقه بمصيره، إلا احتداماً وسطوة لدى فريق واسع من الخاصة والعامة على السواء.
بيد أن الشاعر لم يتردد كثيراً حتى عرف سربه فانضم إليه، ثم صدح محلقاً إلى أن اختطفته يد المنون وهو في ريعان الشباب.
كان والده من خريجي الأزهر ومن مجازيه،أقام بمصر سبع سنين، ثم درس بتونس بجامع الزيتونة سنتين حصل بعدهما على التطويع، ثم سمي قاضيا شرعياً لسنة من ولادة بكره أبي القاسم فتصرف في قضاء كثير من البلدان التونسية.
لم ينشأ أبو القاسم بمسقط رأسه فقد خرج عنه في سنته الأولى، ولم يكد يعرفه إلا قليلا، أثناء قدمتين أقام فيهما نحو من ثلاثة أشهر، وقد استغرقت جولة الأسرة عشرين سنة ضربت في بحرها بالبلاد التونسية طولاً وعرضاً ، متنقلة من قابس إلى سليانة، فتالة، ومن مجاز الباب إلى رأس الجبل فزغوان، وعلى نسبة ذلك اختلاف العادات واللهجات والمشاهد الطبيعية ، واختلاف طباع أهل الشمال عن أهل الجنوب، هذه المراحل عملت على تضخم تجربة الشاعر، وتدفق شاعريته،وازدهار ريشته، بيد أن الشاعر أفاد ما يفيده كل عابر سبيل متيقظ واع، إذا ما استقر بأرض ربيبها لا ابنها الأصيل، فأطلقه هذا المصير من حدود البيئة الضيقة وأكسبه (تونسية) إنسانية الآفاق.
قدم أبو القاسم إلى العاصمة ١٩٢٠م للدراسة بجامع الزيتونة في الثانية عشرة من عمره، وقد تكون سريعا، وقال الشعر باكراً، كوّن نفسه ثقافة عربية واسعة بحتة جمعت بين التراث العربي في أزهى عصوره، وبين روائع الأدب الحديث، ولم يكن يعرف لغة أجنبية، فتمكن بفضل مطالعته الواسعة من استيعاب ما تنشره المطابع العربية عن آداب الغرب وحضارته، وكانت أول نشراته في الصفحة الأدبية التي كانت ترتبها "النهضة" كل اثنين سنة ١٩٢٦م
وفي سنة ١٩٢٧م ظهر شعره مجموعاً في المجلد الأول من كتاب"الأدب التونسي في القرن الرابع عشر" وفي نفس السنة ألقى محاضرة حول الخيال الشعري عند العرب، كانت مادة الكتاب الذي نشره بنفس العنوان السنة التالية.
وفي سنة ١٩٢٩م نكب بوفاة والده المحبوب، ولقد رافقه عليلامن بلد"زغوان" إلى "توزر" مسقط رأسه وتجرع غصص مرضه،وطفحت الكأس بموته وهو في الخمسين من عمره، فاضطلع بأعباء عائلة كبيرة.
وفي السنة نفسها أصيب بداء تضخم القلب وهو في الثانية والعشرين من عمره، بيد أنه رغم نهي الطبيب لم يقلع عن عمله الفكري وواصل انتاجه نثراً وشعراً ، وقد نشرت له سنة ١٩٣٣م بمجلة"أبولو" المصرية قصائد عملت على التعريف به في الأوساط الأدبية بالشرق العربي وإلى أبي القاسم أوكل صديقه الدكتور أحمد زكي أبو شادي تصدير ديوانه "الينبوع"
لم يكن الشاعر المريض يغادر "توزر" إلا في الصيف ويقصد المصطافات الجبلية كعين درهم بالشمال التونسي سنة ١٩٣٢م والمشروحة ببلاد الجزائر سنة ١٩٣٣م.
وشرع أثناء مصيف ١٩٣٤م في جمع ديوانه " أغاني الحياة" بنية طبعه في مصر فانتسخه بنفسه بحامة الجريد، مستعينا ببعض أدبائها، لكن باغتته المنية وحالت دونما نوى، فقد انتابه المرض بغاية الشدة وقصد تونس في٢٦ من اغسطس عام ١٩٣٤م وبها توفي سحرا يوم ٩ اكتوبر عام ١٩٣٤م ثم نقل جثمانه إلى بلدة "توزر" حيث قبره.
قيل عنه:-
ويذكره الشاعر العراقي المعروف فالح الحجية في كتابه شعراء النهضة العربية فيقول فيه (فهو شاعر وجداني وهو برغم صغر سنه شاعر مجيد مكثر يمتاز شعره بالرومانسية فهو صاحب لفظة سهلة قريبة من القلوب وعبارة بلاغية رائعة يصوغها بأسلوب أو قالب شعري جميل فهو بطبيعته يرنو إلى النفس الإنسانية وخوالجها الفياضة من خلال توسيعه لدائرة الشعر وتوليد ومسايرة نفسيته الشبابية في شعر جميل وابتكار أفضل للمواضيع المختلفة بحيث جاءت قصيدته ناضجة مؤثرة في النفس خارجة من قلب معني بها ملهما إياها كل معاني التأثر النفسي بما حوله من حالة طبيعية مستنتجا النزعة الإنسانية العالية لذا جاء شعره متأثرا بالعالمين النفسي والخارجي).
من أشهر قصائده
إذا الـشـعب يـوما أراد الـحياة فـلا بـد أن يـستجيب الـقدر
ولا بـــــد لــلــيـل أن يــنـجـلـي ولابــــد لـلـقـيـد أن يـنـكـسـر
ومــن لــم يـعـانقه شــوق الـحـياة تـبـخر فـي جـوها وانـدثر
كــذلـك قــالـت لـــي الـكـائـنات وحـدثـنـي روحـهـا الـمـستتر
ودمـدمت الـريح بـين الـفجاج وفـوق الـجبال وتحت الشجر:
إذا مــا طـمـحت إلــى غـايـة ركـبـت الـمـنى ونـسـيت الـحذر
ومـن لا يـحب صـعود الـجبال يـعش ابـد الـدهر بـين الحفر
فـعجت بـقلبي دمـاء الـشباب وضـجت بـصدري ريـاح أخر
وأطـرقت أصـغى لـقصف الـرعود وعـزف الرياح ووقع المطر
وقـالت لـي الأرض لـما سـالت: يـا أم هل تكرهين البشر ؟:
أبـارك فـي الـناس أهـل الـطموح ومـن يـستلذ ركوب الخطر
وألـعن مـن لا يماشي الزمان ويقنع بالعيش ، عيش الحجر
هــو الـكـون حـي يـحب الـحيتاة ويـحتقر الـميت مـهما كـبر
وقـــال لـــي الــغـاب فـــي رقــة مـحـببة مـثـل خـفـق الـوتـر
يـجـيء الـشـتاء شـتاء الـضباب شـتاء الـثلوج شـتاء الـمطر
فينطفئ السحر سحر الغصون وسحر الزهور وسحر الثمر
وسحر السماء الشجي الوديع وسحر المروج الشهي العطر
وتــهـوي الـغـصـون وأوراقـهـا وأزهــار عـهـد حـبـيب نـضـر
ويـفـنـى الـجـمـيع كـحـلم بـديـع تـألـق فــي مـهـجة وانـدثـر
وتـبـقى الـغـصون الـتـي حـمـلت ذخـيـرة عـمـر جـميل عـبر
مـعـانقة وهــي تـحـت الـضباب وتـحت الـثلوج وتـحت الـمدر
لـطـيف الـحياة الـذي لا يـمل وقـلب الـربيع الـشذي الـنضر
وحـالـمـة بـأغـانـي الـطـيـور وعــطـر الــزهـور وطـعـم الـمـطر