"لم تكن تلك
التفاحة مسمومة"
قالتها وأطبقت جفنيها لتغط في موت عميق...
تلك الابتسامة على طرف ثغرها الباهت، لم
يقابلها سوى خواء الغرفة الباردة...
لم تكن تمتلك إلا قلبا أبلاه الزمن، و
أكوام من الذكريات التي كدستها لوقت طويل في ركن مهمل من عقلها...
مر زمن وهي تقتات من جهل الناس وحاجتهم
للأمان الزائف؛ عرافة يقصدها الناس، في ذلك الكوخ النائي، الذي اعتبر قبلة الحيارى
واليائسين، تقرأ الكف و الفناجين، وأوراق التاروت وتضرب بالودع..
كان اختيارها المقدر أن تكون تلك المشعوذة
على أن تكون كائنا مكروها ممن تحب...
قبل أن تغمض عينيها، نبشت ذاكرتها، قلبت
سنين عمرها رأسا على عقب، وافترشت سريرا من أشواق شائكة...
"احذري.. كل التفاح
لك حلال.. إلا تفاحة آدم.. لا تقربيها فتكوني من النادمين"
كانت تلك النبوءة بداية الحكاية...
- أي آدم تقصدين؟
سألتها تلك الفتاة وهي تلف ذراعها بغنج حول ذلك الشاب الجالس بينهما وقد أتبعت
كلماتها بضحكات رنانة أصابت عرافتنا الشابة بالحنق والغضب؛ حتى ألقت بالفناجين
التي كانت تقرأها..
كان لديها هوس بقراءة الفناجين بغير علم،
لكنها كثيرا ما كانت تصيب فتعتبرها "ضربة حظ"
فهي لم تكن سوى فتاة عادية.. كبقية البنات
تغار على حبيبها العابث "آدم" معشوق الجميلات...
بغير هدى فتنت به، وكأن لا آدم سواه؛ فنسجت
في خيالها حكايات كثيرة هي فيها حواؤه الوحيدة...
كم أفرغت من فناجين القهوة بشراهة كي تجده
ولو مرة في قاع فنجان الحظ اللعين اللذي لا يأتي..
بحثت في علم الفلك لعل نجمين يلتقيان.. لا
بل ينصهران؛ فاللقاءات لم تكن مستحيلة، والكلام العذب والوعود الجميلة والمواعيد
الحميمة داخل الجامعة وخارجها، لكنها كانت تدرك أن هناك خطر ما!
هذا كله لن يدوم، تلك اللحظات الجميلة لم
تكن مرسومة في خطوط القدر كما تعتقد...
شعرت بارتياع شديد إثر انتهائها من ارتشاف
القهوة مع آدم، أرادت أن تقلب الفنجان لولا نظراته الحازمة والآمرة بألا تفعل، فقد
بات الأمر هوسا وجنونا!
وليصرف من رأسها الفكرة سألها "ألم
تحضري لي معك تفاحة كعادتك؟!"
ابتسمت بسعادة بالغة، وأخرجت من حقيبتها
تفاحتين كما اعتادت، فطعام كفتيريا الجامعة لا يعجبها!
قدمت لآدم بكل حب التفاحة الأشهى... أمسك
يدها وهو يقبض على التفاحة ولثم أناملها بوله ملحوظ، حتى كاد قلبها يقفز لهفة، في
لحظة كانت لتكون الأجمل لولا أن اقتحمت مجلسهما تلك الفتاة...
بدلال مصطنع اختطفت التفاحة من يد آدم وهي
تقول "أتسمح لي؟"
لم يعقب على سؤالها بعد أن قررت وفعلت،
بينما شعرت حواء بالغيظ من تلك الدخيلة ووقاحتها...
قضمت بضع قضمات من التفاحة ثم وضعتها على
الطاولة، وقبل أن تذهب وضعت كفها على وجه آدم بحركة بدت مثيرة وهي تهمس "سأراك
الليلة"
رمت غمزة ماكرة، ومشت بضع خطوات قبل أن
تسقط أرضا تتلوى من الألم....
لم تكن تعلم حتى آخر رمق كيف حدث ذلك!
لم تذكر أنها أرادت أن تقتله أو حتى
تقتلها، ولم تكن تعي معنى نبوءتها تلك "لا تقربي تفاحة آدم" فهي تدرك
أنها لم تقلها إلا غيظا وغيرة...
كل ما تعرفه أنها منذ تلك اللحظة قد تفرقت
كل الخطوط، والتقاء نجمين في ذلك الأفق بات مستحيلا...
لم تمت تلك الفتاة، لكن الفحوصات أكدت أنها
حالة تسمم ناتجة عن تلك التفاحة، تفاحة من المفترض أنها "تفاحة آدم"
ابتسمت قبل أن تغمض جفنيها، وهي تتذكر
الليلة السابقة، كانت تجوب الشوارع تقرأ الطالع للهائمين...
رجل في الخمسين لم تخفِ وسامته مسحة الحزن
على محياه!
خارج من حانة، هائم على وجهه، مغيّبٌ وقد
خمر المشروب عقله...
يتكئ على سيارته الفارهة حتى سقط أرضا من
الثمالة، لا يدري أي يد تلك التي لمست كفه...
"حين يلتقي النجمان
مجددا.. سيأفل أحدهما"
لم يدرك معنى ما قالته تلك العجوز التي
اختفت من أمامه قبل أن ينطق:
"التفاحة لم تكن
مسمومة"
نظر حوله ولم يجدها، كانت قد اختفت تماما...
لم تنم ليلتها وهي تعيد ترتيب ذكرياتها،
تربط خيوطها التي تآكلت، وتقبل يدها التي لامست يده منذ ساعات وهي على يقين أنه لم
يعرفها...
تمنت أن تسمع صوته وتحادثه، لكنها قرأت كفه
ورحلت لمأواها...
ومع خيوط الصباح الأولى، بعد أن لملمت كل
أفكارها المبعثرة منذ أكثر من ربع قرن، تبسمت أخيرا وقد أتاها اليقين...
"لم تكن تلك
التفاحة مسمومة"!