إنّه شرقيّ !
أشاحت عنه بوجهها.. تململت في مقعدها، وقد تحجّرت الكلمات في حلقها. كانت تُحسّ أنّ يدها تحترق تحت يده غير أنّها لم تُحرّكها. داهمتها ذكرياتها على حين غرّة. فسحبت يدها ورفعت إليه طرفا ذابلا. حاول أن يمسك يدها من جديد لكنّها مانعت ذلك بشدّة وأصرّت أن يُغادرا المكان. ركضت مُحاولة أن تكبت رغبة جارفة في البُكاء، وهو خلفها لا يفهم ما حلّ بها فجأة. أحكم قبضته على ساعِدها وسألها في حيرة: ما خطبك حبيبتي؟
لم تُسعفها اللّغة بعبارات تقولها وقد أضرب عقلها عن التوليف بين المفردات وفقدت القدرة على الكلام. كيف ستخبره بما يؤرقها؟ كيف سيتلقّى الخبر؟ هل سيفهم ما عاشته؟ من المؤكد أنّه سيفهمها. أليس هو الّذي أخبرها في أوّل لقاء جمعهما أنّ أكثر ما شدّه إليها إصرارُها على مبادئها وإيمانُها بما تقوله وتفعله؟!..
ولكن أ يبقى على الموقف نفسه إن قصّت عليه حكاية صمودها؟ هل يبقى على عهده إن أخبرته أنّ صمودها اِفترس عفّتها وأنّ نضالها لم يرحم كرامتها؟؟ كانت الحيرة تنخرها وهو يقف أمامها مدهوشا يكرّر السّؤال نفسَه في نفسِه ماذا دهاها؟ ألا تحبّه يا ترى؟!! هل تسرّع في تصريحه بحبّها الّذي اِجتاحه كبركان ثائر أو هي تحاول أن تورّطه في حبّها أكثر وليس هذا إلاّ دلال مُحبّ؟؟ قطع صمتَهما الكئيب قولُه: ألن تُخبريني ما بك؟
رفعت إليه العين نفسها الّتي كانت تتحدّى بها جلاّدها. ولكن خبا فيها الاتقاد الّذي كان يقهر جلاّدها. لقد أعلنت النّسيان يوم غادرت ذلك المكان اللّعين.. ولكن أمسها
المقيت ألقى بظلاله على كامل حياتها، غازيا يومها وغدها.. وضلّت طريقها إلى النّسيان..
رابه شرودها الطويل وصمتها الثقيل. فأمسك يدها وعلى شفتيه طيف اِبتسامة وخرجت الكلمات مرتعشة من فيه: هل أزعجك شيء ممّا قلته؟ أجابته بالنفي وبدت الكلمة الوحيدة التي نطقتها مثقلة بوجع الروح. فقد اِهتزّ لسانها المنقبض في حلقها الجافّ دون أن تدري. وسألت نفسها هل أزعجها كلامه؟ لقد أسعدها طبعا ولكن ذاكرتها كدّرت صفوها. وعقلها أمرها أن تطلعه على سرّها ليحسم أمره قبل أن يتورّط في حبّها أكثر.
ستقصّ عليه الخبر. ولكن هل ستبقى شامخة في خياله حين تخبره أنّها كانت ذات يوم حبيسة زنزانة؟ هل سيحبّها دائما حين تعرّي أمامه جروح روحها وتروي له ما تحمّلته من إذلال في سبيل فكرها؟؟ كيف عساها تقول له إنّ الزنزانة اغتصبت عفّتها بوحشيّة؟!! ولكنها صمدت لإيمانها بفكرها وليقينها أنّ كلمة "لا" هي الّتي تنحت تاريخ الحرية.. كيف ستخبره وهو الشرقيّ أّنها صارت في تلك الزنزانة روحا بلا جسد، فقد مات جسدها مع أوّل انتهاك له وصار حِملا تضيق به؟؟ هل سيصدقها إن قالت له إنّ جسدها عانق روحها في توق إلى الحياة من جديد حين زرع حبّه النّبض في فؤادها من جديدٍ؟؟؟
اِنهارت فجأة وبكت وبكت وبكت.. أدمى بكاؤها قلبه وزاد حيرته؛ ما الّذي يبكيها بهذه اللّوعة؟!! ما سبب هذه المرارة؟؟
اقترب منها وضمّ يديها بين يديه.. سرت رعشة في يديها الباردتين فسحبتهما برفق من راحتيه ومسحت دموعا استقرّت على وجنتيها. حاول أن يبتسم وهو يسألها: هل أنت أفضل؟ هزّت رأسها وشفتاها مكتومتا الأنفاس. كانت تخاف أن تحرّك شفتيها
فتُعرّي أمامه أمسها.. كانت تخاف أن يسوّيها بمن تتاجر بعفّتها.. كانت تخاف أن يرغب عن حبّها.. كانت تخشى أن يحتقرها.. كانت تحبّه ولذلك لا يمكنها أن تحجب عنه شيئا من أمسها.. منذ عرفته باحته له بكلّ شيء، بقيت تلك الزنزانة فقط تتراءى لها كلّما التقيا.. يزورها طيفها كلّما تذكّرته.. تعاودها آلامها كلّما أمسك يدها...
دارت بها الأرض عندما أطلقت العنان لشفتيها. لقد قرّرت أن تهدم الجدار الّذي حال دونهما. اِنتبه إلى الوميض الّذي اِتّقد في عينيها وإلى دمعتين تحجّرتا في مُقلتيها وهي تتكلّم. كان يصغي إليها ساكنا كلَيْلٍ بهيم. وكانت هي تضغط على حنجرتها حتّى تخرج الحروف شديدة ويحافظ الصوت على صموده وكبريائه.
كان ينظر إليها وكأنّه يرى أخرى. كانت تنزف: عيناها تنزفان وصوتها ينزف وجروح غائرة في روحها تنزف قهرا.. لقد قالت كلّ شيء. عادت إلى الزّنزانة بكلّ ما فيها.. أخبرته عن جلاّدها. ووصفت له عذابها، ألمها، عجزها..
لقد قالت له كلّ شيء كلّ شيء غير أنّه لم يقل شيئا. ظلّ يُحدّق فيها دون أن ينبس بكلمة واحدة توقف نزيفها أو تقطع شريانها.. وراودتها رغبة شديدة في البكاء لكن الدّموع خانتها وأسعفته. رأت دمعة تائهة تتسلّق أهدابه.. وما أصعب أن يبكي الرجل حين تخونه أسلحته كلّها، فلا تبقى له سوى الدّموع يطلبها غزيرة فتُنجده بحياء.. كانت تقاوم رغبتها في مسح دمعته ولكنّها فقدت توازنها فجأة وأحسّت أنّها تترنّح وأنّ الأرض تدور، وأنّ الكون يضيق حين ترك يدها للنّزيف ووقف.
اِبتعد بخطوات ثقيلة وتركها خلفه تفترسها أصوات الزنزانة ويغزوها الألم.
بقلم إيمان محرز 2009
أشاحت عنه بوجهها.. تململت في مقعدها، وقد تحجّرت الكلمات في حلقها. كانت تُحسّ أنّ يدها تحترق تحت يده غير أنّها لم تُحرّكها. داهمتها ذكرياتها على حين غرّة. فسحبت يدها ورفعت إليه طرفا ذابلا. حاول أن يمسك يدها من جديد لكنّها مانعت ذلك بشدّة وأصرّت أن يُغادرا المكان. ركضت مُحاولة أن تكبت رغبة جارفة في البُكاء، وهو خلفها لا يفهم ما حلّ بها فجأة. أحكم قبضته على ساعِدها وسألها في حيرة: ما خطبك حبيبتي؟
لم تُسعفها اللّغة بعبارات تقولها وقد أضرب عقلها عن التوليف بين المفردات وفقدت القدرة على الكلام. كيف ستخبره بما يؤرقها؟ كيف سيتلقّى الخبر؟ هل سيفهم ما عاشته؟ من المؤكد أنّه سيفهمها. أليس هو الّذي أخبرها في أوّل لقاء جمعهما أنّ أكثر ما شدّه إليها إصرارُها على مبادئها وإيمانُها بما تقوله وتفعله؟!..
ولكن أ يبقى على الموقف نفسه إن قصّت عليه حكاية صمودها؟ هل يبقى على عهده إن أخبرته أنّ صمودها اِفترس عفّتها وأنّ نضالها لم يرحم كرامتها؟؟ كانت الحيرة تنخرها وهو يقف أمامها مدهوشا يكرّر السّؤال نفسَه في نفسِه ماذا دهاها؟ ألا تحبّه يا ترى؟!! هل تسرّع في تصريحه بحبّها الّذي اِجتاحه كبركان ثائر أو هي تحاول أن تورّطه في حبّها أكثر وليس هذا إلاّ دلال مُحبّ؟؟ قطع صمتَهما الكئيب قولُه: ألن تُخبريني ما بك؟
رفعت إليه العين نفسها الّتي كانت تتحدّى بها جلاّدها. ولكن خبا فيها الاتقاد الّذي كان يقهر جلاّدها. لقد أعلنت النّسيان يوم غادرت ذلك المكان اللّعين.. ولكن أمسها
المقيت ألقى بظلاله على كامل حياتها، غازيا يومها وغدها.. وضلّت طريقها إلى النّسيان..
رابه شرودها الطويل وصمتها الثقيل. فأمسك يدها وعلى شفتيه طيف اِبتسامة وخرجت الكلمات مرتعشة من فيه: هل أزعجك شيء ممّا قلته؟ أجابته بالنفي وبدت الكلمة الوحيدة التي نطقتها مثقلة بوجع الروح. فقد اِهتزّ لسانها المنقبض في حلقها الجافّ دون أن تدري. وسألت نفسها هل أزعجها كلامه؟ لقد أسعدها طبعا ولكن ذاكرتها كدّرت صفوها. وعقلها أمرها أن تطلعه على سرّها ليحسم أمره قبل أن يتورّط في حبّها أكثر.
ستقصّ عليه الخبر. ولكن هل ستبقى شامخة في خياله حين تخبره أنّها كانت ذات يوم حبيسة زنزانة؟ هل سيحبّها دائما حين تعرّي أمامه جروح روحها وتروي له ما تحمّلته من إذلال في سبيل فكرها؟؟ كيف عساها تقول له إنّ الزنزانة اغتصبت عفّتها بوحشيّة؟!! ولكنها صمدت لإيمانها بفكرها وليقينها أنّ كلمة "لا" هي الّتي تنحت تاريخ الحرية.. كيف ستخبره وهو الشرقيّ أّنها صارت في تلك الزنزانة روحا بلا جسد، فقد مات جسدها مع أوّل انتهاك له وصار حِملا تضيق به؟؟ هل سيصدقها إن قالت له إنّ جسدها عانق روحها في توق إلى الحياة من جديد حين زرع حبّه النّبض في فؤادها من جديدٍ؟؟؟
اِنهارت فجأة وبكت وبكت وبكت.. أدمى بكاؤها قلبه وزاد حيرته؛ ما الّذي يبكيها بهذه اللّوعة؟!! ما سبب هذه المرارة؟؟
اقترب منها وضمّ يديها بين يديه.. سرت رعشة في يديها الباردتين فسحبتهما برفق من راحتيه ومسحت دموعا استقرّت على وجنتيها. حاول أن يبتسم وهو يسألها: هل أنت أفضل؟ هزّت رأسها وشفتاها مكتومتا الأنفاس. كانت تخاف أن تحرّك شفتيها
فتُعرّي أمامه أمسها.. كانت تخاف أن يسوّيها بمن تتاجر بعفّتها.. كانت تخاف أن يرغب عن حبّها.. كانت تخشى أن يحتقرها.. كانت تحبّه ولذلك لا يمكنها أن تحجب عنه شيئا من أمسها.. منذ عرفته باحته له بكلّ شيء، بقيت تلك الزنزانة فقط تتراءى لها كلّما التقيا.. يزورها طيفها كلّما تذكّرته.. تعاودها آلامها كلّما أمسك يدها...
دارت بها الأرض عندما أطلقت العنان لشفتيها. لقد قرّرت أن تهدم الجدار الّذي حال دونهما. اِنتبه إلى الوميض الّذي اِتّقد في عينيها وإلى دمعتين تحجّرتا في مُقلتيها وهي تتكلّم. كان يصغي إليها ساكنا كلَيْلٍ بهيم. وكانت هي تضغط على حنجرتها حتّى تخرج الحروف شديدة ويحافظ الصوت على صموده وكبريائه.
كان ينظر إليها وكأنّه يرى أخرى. كانت تنزف: عيناها تنزفان وصوتها ينزف وجروح غائرة في روحها تنزف قهرا.. لقد قالت كلّ شيء. عادت إلى الزّنزانة بكلّ ما فيها.. أخبرته عن جلاّدها. ووصفت له عذابها، ألمها، عجزها..
لقد قالت له كلّ شيء كلّ شيء غير أنّه لم يقل شيئا. ظلّ يُحدّق فيها دون أن ينبس بكلمة واحدة توقف نزيفها أو تقطع شريانها.. وراودتها رغبة شديدة في البكاء لكن الدّموع خانتها وأسعفته. رأت دمعة تائهة تتسلّق أهدابه.. وما أصعب أن يبكي الرجل حين تخونه أسلحته كلّها، فلا تبقى له سوى الدّموع يطلبها غزيرة فتُنجده بحياء.. كانت تقاوم رغبتها في مسح دمعته ولكنّها فقدت توازنها فجأة وأحسّت أنّها تترنّح وأنّ الأرض تدور، وأنّ الكون يضيق حين ترك يدها للنّزيف ووقف.
اِبتعد بخطوات ثقيلة وتركها خلفه تفترسها أصوات الزنزانة ويغزوها الألم.
بقلم إيمان محرز 2009