الاثنين، 12 ديسمبر 2016

قراءة في المجموعة القصصيّة "الهجرة إلى الوطن" للكاتب السّوريّ منذر غزالي ________بقلم الكاتبة زهرة خصخوصي

تصدير:
__________
"
لعلّه ليس من شأن الكاتب الجدّة والطّرافة وإنّما هو أن يفترق على يده الجوهر عن العرض العارض.."
__
محمود المسعدي*(مقدّمة رواية"حدّث أبو هريرة قال")/*كاتب تونسي
مدخل:
________
ما أكثر الكتابة في عصرنا وما أندر الكتّاب...
كلمات يظلّ يردّدها الفكر وجلا والنّصوص القصصيّة تترامى أمامنا غزيرة لا تني تمتدّ بُسُطها كسهول خضراء تلعق سفوح الجبال خضراء يسحرنا نضارها، ولا ندرك إن كانت حقولا تفيض علينا بزرع مثقل حبّا، أم مراعي نباتُها شوك "حزيز كأنّه الإبر"*، إلّا ونحن نلجها ونوغل فيها ونمحّصها ونتذوّق حبّاتها...
وكم يعسر دربنا حين تجتمع نصوص قصصيّة في أثر واحد حيث يطول الإيغال ويشتدّ التّمحيص وتمسي المساءلة أكثر لجاجة، والقول فيها هو كتدقيق الخبير في الصّرح المعماريّ لا يظفر بسماته المخصوصة إلّا وقد انتهى منه حَجرة حَجرة، وركنا ركنا، وحُجرة حُجرة، ورُخاما رخاما...
لكنّ خطانا تحظى بقليل من اليسر إذ نظفربمجموعة قصصيّة تتسربل بواقعيّة الضّياء، ذاك الضّياء الفيء الأسّ الذي في رحابته نشأنا ومن شهده نهلنا فزُرع الحرف فينا جنينا يستوي في رحم القريحة ليرى النّور صورة عنه أو حاملا لبعض جناته وإن خالفه في بعضها الأخرى...
والمجموعة القصصيّة "الهجرة إلى الوطن" للكاتب السّوريّ منذر غزالي تبدو من هذه المجموعات التي تحنو على القارئ وهي تهبه عبق الواقعيّة فيطمئنّ إليها ويُقبل على استقرائها بلا وجل.. لكن أترى فعلا درب ذاك الاستقراء أيسر؟
القراءة:
________
قبل ولوج المجموعة القصصيّة التي بين أيدينا نصطدم بعتبته، العنوان، اصطداما يستنفر الحيرة والاستغراب فينا ويشحذ سيوف التّسآل في مغامد الفكر. عنوانها هو "الهجرة إلى الوطن". هو مركّب شبه إسناديّ المشتقّ العامل فيه هو مصدر معرّف بالألف واللّام، والمتعلّق به في محلّ مفعول فيه يدلّ على الانتهاء في المكان..
لذلك ارتأيت أن تنطلق القراءة هذه من عتبة المجموعة الشّعريّة خطوة لابدّ منها لييسر المسير الاستقرائيّ .
1-
العنوان:
________
لمفردة الهجرة معاني لا تتباين بل تلتقي جميعها في الدّلالة على مغادرة الوطن مسكنا كان أو بادية أو رقعة ترابيّة لها حدودها وهويّتها واستقلالها..
ومن هذه المعاني نجد:
هاجر هجرة ومهاجرة: الخروج من أرض إلى أرض.
قال الأزهري:" أصل المهاجرة عند العرب خروج البدويّ من باديته إلى المدن، يقال: هاجر الرّجل إذا فعل ذلك، وكذلك كلّ مُخل بمسكنه منتقل إلى قوم آخر بسكناه فقد هاجر قومه"(لسان العرب/ج15)
_
هِجْرة : مصدر من الفعل هاجرَ . ونقول هاجرَ عن / هاجرَ من .
وهي خروج من أرض إلى أخرى ، سعيًا وراء الأمن أو الرزق :- كثرت الهِجْرة إلى الخارج .(معجم اللغة العربية المعاصر)
_
هجرة العَمالة أو رأس المال باتّجاه مناطق الرخاء والاستقرار الاقتصادي . وتعني بالانجليزية immigration(المعجم: مالية)
_________
بناء على هذه التّعريفات المعجميّة تسكننا الحيرة ونحن نرى المتعلّق بالمصدر هو بلوغ الغاية مكانيّا متمثّلة في الوطن..
فكيف يمسي الوطن مقصدا للهجرة والأصل أنّها منه تنبثق؟
وكيف ارتسمت الهجرة إلى الوطن مقصديّا في النّصّ الذي تعنونه أوّلا، ثمّ في هذه المجموعة القصصيّة الموسومة بها عنوانا ثانيا؟
هذا ما قد تكشف ذي القراءة عن بعضه إن تيسّرت الخطى التي تنذر العنونة بعسرها..
2-
متن المجموعة القصصيّة فنّيّا:
___________________________
تشكّلت فسيفساء هذه المجموعة القصصيّة من ثماني قطع هي قصص اختلفت سماتها لتتعاضد في تكامل بديع لتقدّم لنا أثرا أدبيّا مستفزّ لقارئه من حيث مقوّمات القصّ القصير فيه.
وقد اتّفق النّقّاد على أسس القصّة القصيرة فنّيّا فحصروها في الموضوع والحبكة والبنية السّرديّة الثّلاثيّة، بداية وعقدة/صراعا ونهاية،وشخصيّات وإطار زمكانيّ ونسيج فنّيّ عُمُده سرد،أحداثا وتبئيرا، ووصف وحوارولغة. لكنّهم تركوا لكلّ كاتب منافذ بناء نتاج قريحته القصصيّ بما يضمن له الإبداع والتّفرّد دون الاغتراب عن أصول هذا الفنّ الأدبيّ العذب..
وبناء على الوعي بهذه المنافذ رأيت، وأنا أوغل في قطع هذه الفسيفساء القصصيّة استقراء، أنّ كاتبنا السّوريّ المبدع منذر غزالي، وإن حافظ على نمطيّة الحبكة والمواضيع والشّخصيّات والبناء السّرديّ الثّلاثيّ واللّغة الكاشفة النّائية عن تخوم البلاغة ما عنّ لها أن تنأى، فقد خصّ بعض أسس القصّ بتناول مخصوص وظيفيّا لينثر فيها ضياء إبداع قريحته.
وقد تمثّل ذلك في ما يلي:
أ/الوصف:
_________
الوصف فنّ من فنون الكتابة القصصيّة يوظّف لتصوير المشاهد وتقديم الشّخصيّات والتّعبير عن المواقف والانفعالات، يتقفّى خطى العين ليرسم ما تراه بقلم الفنّ وأهازيج القرائح..
وقد وظّف الكاتب منذر غزالي في قصصه التي بين أيدينا أسلوب الوصف لكنّه خرج به من مجرّد توشية النّصّ وتقديم الشّخصيّات والأطر الزّمكانيّة، إلى جعله عنصرا منمّيا للأحداث حاملا لواء التّمهيد لها وجعلها جسرا قصصيّا للعبور من محطّة سرديّة إلى أخرى.. ولنا في الأمثلة التّالية نماذج من هذا الإبداع:
*في قصّة " تلك الليلة":
[
الحانة تعجُّ بالزبائن , ودخان السجائر, ورائحة اليانسون .
و زرزور – صاحبُها العجوزُ, الصامت دائماً – يجلس خلف الدفّة، يسند رأسَه إلى كفّيه, ويراقب بشبه
إغماض.
دُون أن يُلقيَ السلامَ, توجّه يوسف الجمل إلى طاولته المعتادة قرب النافذةِ الصغيرةِ المطلة على بيوت
الحارة القديمة .]
____
وصف يفتح بوّابة سرد حدث الانتظار والتّذكّروالكشف عن بواطن الشّخصيّات الموجّهة للوجود السّرديّ للشّخصيّة الرّئيسيّة...
[
الليلة تمتدُّ على مساحة الذاكرة .
يتأمَّلُ المشهدَ الثمِلَ من حَولِه، ويتنهَّد بسخريةٍ وأسىً .
ينظر من النافذةِ الصغيرةِ : ضوءٌ أحمرُ خافتٌ ينادي من الشرفة المقابلة .
يتململُ القلب بفرح واشتهاء…إنَّها (عزيزة خانم) فتحتْ ستائرَ غرفتها. ثوبها الورديُّ يتمايل في عينيه،
يداعب وجهَه بعذوبةٍ ودلال...تسقط ألفُ زهرةٍ على السرير الواسع، وغيمةُ عطر تفوح من الملاءة
تنتفض الياسمينةُ المتشبِّثةُ بجدار الشرفة, ترقص، تئنُّ...وتصفِّق الرجولةُ خجلة في داخلهِ .
تتفتّح على خدّها وردةٌ جوريٌّة...ترسمُ أحلامَ الصِّبا الموؤود.
وعند انصهار الروح بالجسد, يتوحّد الحزن والفرح...تنبثق الهزائمُ الكامنةُ في الروح ... ينفجر تعبُ
السنين المتراكمُ, لحظةَ احتراق الخلايا...تبكي شبابَها الضائعَ، ليالي وحدتِها الطويلة في انتظار من لا
يأتي...تلملمُ حبِّات أمومتِها المتناثرةَ، على بيوت الحارة .
تُسِندُ رأسَها على صدرهِ...تحدِّثه عن تفاصيل يومِها, عن همومها, وأحلامِها البسيطة، تطوِّقُه بيديها,
تشمُّ رائحةَ جسدِهِ...وتعتصِره.]
_____
تمهيد لسرد اختلاجات النّفس وهي تتبلبل بين الوجع والوجل..
[
تتماهى الأشياءُ, وتمتزجُ الصُّوَرُ...الضوءُ الأحمر يَبْهُت, وتضيع اللحظةُ, ينسدل في داخله ليلٌُ مظلمٌ،
ينسحب الحزنُ خيطاً دقيقاً يحزُّ حوافَّ القلب، وعلى اللوحةِ السوداء يرى أمَّه التي تركها صبيَّةً يلبسها
السَّوادُ, إخوتَه المنكمشين من خوفٍ داهمَ البيتَ فجأةً, فاختطف الدفءَ الذي كان يشعُّ فيه.]
________
مقطع وصفيّ به يتنامى السّرد ليدرك نهاية القصّة
*في قصّة "حدث الآن ....حدث أمس"
["في شرفة الليل أجلس وحدي ...
ودفتر صغير , أرمي بنزقي , وهمومي على صفحاته البيض . يستمع لي بحياديّة , يحلم معي بالمقعد
الآخر الذي يلامس أطراف مقعدي , ينتظر معي تلك النغمة الضائعة التي تطلق لحن حياتي ".]
________
مقطع وصفيّ يدفع بالسّرد نحو حدث استرجاع الحكاية، استرجاع وجع تضاعف وإن تباينت أسبابه..
["
المطر الدافئ تغلغل في الروح، تفتَّحتْ مسامُّ القلب المتشقِّقةُ من عطش قٍديم, أنبتتْ زهوراً، و فرحاً
صوفيا غامضاً حلمتُ به كثيراً, لكنِّي لم أعشْه قبل هذا اليوم"]
_________
يصف الكاتب فرح الرّوح مخاتلا القارئ ليدفع به سرديّا إلى هوّة القفلة المفاجئة الصّادمة وتنجلي له حقيقة الفرح الموهوم..
["تَسقطُ عيناها إلى الأرض، تسقط صخرة ثقيلة على قلبي، يصحو جرحي القديمُ...أرى حبيتي الأولى, وخيبتي الأولى، قبابَ أضرحةٍ وبخوراً, صولجاناتٍ ونواقيسَ، تحاصرني مثل جيشٍ أسطوريّ.
يأسٌ أسودُ يلفّ الدنيا من حولي.]
__________
صفة العتمة المنبجسة من ضياء الكشف لا تعرّف بالشّخصيّة ولا بالموجودات السّرديّة بل تحمل على عاتقها مشعل إضاءة السّبيل نحو حدث الختام الذي يمسي فيه الشّوق إلى وصال الحبيبة توقا إلى استعادة نقاء الوجود الدّينيّ فينا (نحن بني آدم) خارج دجى توظيفه سياطا به يُجلد الوجود..
*
في قصّة: "خيمة,وصحراء , وطلقة مُسدّس":
["
في زاويةٍ بعيدةٍ خارج خيمته يجلس وحيداً .
لاشيءَ حوله سوى الليل، يرخي عباءتَه السوداءَ على الكائنات النائمة.
عيناه تنظران إلى النجوم البعيدة المتناثرةِ مثلَ حبّات عِقد انقطع خيطُه .
لا صوتَ حوله، سوى صوتِ جندب يصرّ في مكانٍ ما فوق الصحراء الممتدّة, يطغى عليه بين حين وآخر صوتُ محرّك بعيدٍ، أو هديرُ طائرةٍ تجوبُ السماء."]
_______
مقطع وصفيّ يحمل تيمة القصّة/موضوعها، ويختزل الأطروحة التي يتبنّاها الكاتب ألا وهي العزلة العربيّة سياسيّا والشّتات القوميّ والجهل وتيه الخطى في عتمة الوجود الاستعماريّ المعاصر رغم الوعي الشّعبيّ هزيل الصّوت كجندب يحاول إطراب صحراء حزينة
["
الطائر البعيدُ مازال يصرخُ في السماء, والشمسُ ترسل سياطَ أشعِّتها, فتنعكسَ على الرمال وهَجاً يترك على الوجه والأذنين لفحَ حرارته. الرطوبة الخانقة، واللزوجة التي تلتصق بجسده، وهذا الحرُّ الشديدُ، تمتزجُ مع أفكاره المحمومةِ، فتتصاعدُ في صدرِه غضباً مكبوتاً يكاد أن يفجُّر شرايينَه"]
________
الوصف هنا يزيد الأحداث توتّرا في الحكاية...
*في قصّة "الهجرة الى الوطن":
["في مكتب مدير أمن المطار فاجأه الضابط بوسامته، وأناقته, والنظافة التي تفيض منه, تنهمر على
المقاعد الجلديّة اللامعة, والمكتبِ الجميل, والنافذةِ الواسعةِ التي يدخل منها ضوءُ النهار."]
________الوصف يحمل في جرابه مهمّة التّشويق لقفلة صادمة آتية سرديّا بعده
*في قصّة "حارس المقبرة"
قبورٌ كثيرةٌ توزّعتْ فوق أرضِ المقبرةِ الواسعة، قبورٌ مختلفةٌ, رخاميٌّة بشواهدَ مزخرفةٍ, تحتلُّ الواجهة،
و بسيطةٌ بشواهدَ صغيرةٍ اكتفتْ باسم المتوفّى, وتاريخِ وفاته, محشورةٌ في الوسط والخلف، وفي
الزوايا الميّتة. تتقدّم القبورَ حفرةٌ جديدةٌ لقبرٍ جديدٍ، قربَ شجرةِ أكاسيا كبيرة.
_________ذا مقطع وصفيّ للمقبرة يحمل على عاتقه وظيفة التّأطير لحدث انتظار الجنازة وسرد حدث الموت القيميّ وفتح المجال لحكاية موت في درب العمر قبل أن ينتهي..
[ضبابٌ كثيفٌ يملأ رأسه، والأشياءُ تغيبُ
عن عينيه، حفرة القبر تظهر من خلف الضباب, تفتح فمها مثلَ وحشٍ مفترس، الرفش في يده , والتراب
لدنٌ من ماء المطر،ويبذل جهداً كي يهربَ؛ لكنّ جسدَه لا يطاوعه، تتقطّع أنفاسُه, والحفرة تحدّق فيه
بتحدٍّ، يغمض عينيه, لا يريد أن يراها، يهرب من الموت القابع في عتمتها]
________أمّا هذا فمقطع وصفي يُخبئ في جرابه عبق حدث الموت الآتي في نهاية القصّة
*في قصّة "قرار نهائيّ"
[...في المقهى اختارا طاولةً منفردةً تزيّنها وردة قُرنفل, وتنيرها شمعة وحيدة]
_____________جملة وصفيّة تفتح الباب على مصراعيه لحكاية غربة القضيّة الفلسطينيّة وعزلتها وضآلة إشعاعها رغم جمال وجودها وعبق أفقها بأغلى الأماني..
*[غيمةٌ كثيفةٌ من الدخان, وضوء سيجارةٍ يخبو ويتوهّج.]
مركّب وصفيّ يومئ إلى ما قد تفضي إليه خطوة العودة من أحداث ها نحن في الواقع المعيش نتابعها..
ب/الحوار:
__________
نجد الكاتب وفيّا لأنواع الحوار في الكتابة القصصيّة لكنّه وظّفها توظيفا مخصوصا خرج بها من وظيفتها التقليديّة المتمثّلة في نقل الأقوال لإضفاء الحيويّة على السّرد.
*الحوار الثّنائيّ:
لم يستغن عنه الكاتب في مجموعته القصصيّة وإن وظّفه لغير مجرّد سرد الأقوال بل جعله من الأدوات السّاردة للأحداث حيث حمّله مسؤوليّة تقديم الاسترجاع في الحكاية، استرجاعا يجلو الغموض عن الأحداث اللّاحقة مثلما نجد في قصّة "حارس المقبرة":
[-أنا المعلم الذي تشهدُ المدرسة, والقرية كلُّها بنزاهته, وإخلاصه, أُسْحَب مثل المجرمين أمام الطلابِ
والمعلمين؟!؛ لكنَّ التهمةَ التي واجَهتْه كانت أكبرَ من كلِّ احتجاجاته :
-ما هي علاقتك بالمدعو(س)؟
-(س )زميلي, وابن قريتي، وعلاقتي به قديمةٌ، من أيام الدراسة .
-لا تتغابَ. سؤالي واضح: ما هي العلاقة السياسيّة التي تربطك به؟، ومنذ متى؟
-لا أعرف عمّا تتحدّث.
-أنت متٌّهم بالانتماء إلى تنظيمٍ مشبوهٍ تدعمه إحدى الدول, وتقاضيتَ مقابل
ذلك مَبالغَ ماليّة عن طريق المدعو(س)
صدَمَه الاتّهام ..
- أنا ؟...مبالغُ ماليّة؟...تجمَّد الدم في عروقه, وتيبَّسَ حلقه، طلبَ كأسَ ماءٍ, وهو يحاول أن يستوعبَ ما يَسمع
-يا سِّيدي...أنا معلّم مدرسةٍ، أكره السياسة, وعلاقتي ب (س) لا تتعدّى الأمورَ الإنسانيَّة. هو زميلي,
وابنُ قريتي, وغيرُ ذلك لا شيء.
-(س) كان سهراناً عندك ليلةَ هُروبِه، تُنكِر
-لا...كان عندي, ومن ليلتِها اختفى, ولا أدري إن كان هربَ, ومن أيِّ شيءٍ قد هرب.
-في تلك الليلة قبضتَ منه الدفعةَ الأخيرة.
-أنا لا أنتمي إلى أي تنظيمٍ, ولمْ أستلمْ أيَّ شيءٍ, وليس أنا من يبيعُ شرفَه، وكرامته. اسألوا عني إن كنتم لا تعرفونني.
-قلتُ لك لا تتغابَ. نحن نعرف كلَّ شيءٍ, وأنتم مُراقَبون منذ زمن.
-ولماذا لم تمنعوه من الهرب، ما دمتم تراقبوننا؟
وجاءه الجوابُ سريعاً...طنيناً حاداً صمَّ أذنه, وكفاً قويَّة ألهَبَتْ خدَّه.
بصَق دماً، وصمت، أيقنَ أنَّ الأمرَ خطير, وأنّه وقع في ورطةٍ الله وحده يعلمُ إن كان سيخرج منها أم لا.
وامتدَّ العذابُ طويلاً: بين غرفةِ التحقيق، والزنزانةِ، وقبوِ التعذيب .
ارتسمتْ آثارُه على كلِّ جزءٍ من جسده, وانحفرتْ في أعماق روحه.
فقدَ رجولته، وفقدَ معها كلَّ جميلٍ في الحياة.]
*الحوار الباطنيّ/المونولوج:
نجد الكاتب هنا قد أضفى عليه خطوطه الخاصّة به وهو يرسمه فجعله في قصّة "حدث الان.. حدث أمس" يتضمّن خطابا للحبيبة الغادرة نحو غياهب فعل بين قضبانه يتنامى سوء توظيف للدّين وجور على تشريعاته،ليصوّر بذلك حبيبته أروع صورة مبوّئا إيّاها منزلتها الأسّ فيه، وما الحبيبة غير الرّوح فيه تسري. مثال:
["الغابة الصغيرة تضمُّ لقاءاتنا, والجسرُ القديم يردّد أغنياتٍ من حرفينا الصغيرين .
خطواتنا لا تزال منقوشة على الشاطئ البعيد, لازالت رماله تحتفظ بقصور أحلامنا.
كلماتنا, ضحكاتنا, عبوسنا, ومناكفاتنا التي لا تنتهي...كلُّ شيءٍ مازال محفوراً في قلبي.
ما أروعَكِ! ما أعذبَكِ! ما أقربَكِ منّي!!.
يحمل الغروبُ عطرَ شعرك, يهبُّ البحرُ منفلتاً عن شواطئه، حين تودّعينني.
ما أظلمَ الوقتَ! ما أقسى ثوانيَه!، دائماً تطاردنا, فتسرقَك منِّي في اللحظة الأقرب , والأعذب.
عيناك الجميلتان يغورُ بريقهما, تهيمُ نظرتك في أفقٍ بعيد.
هذا الغموض في عينيك يقتلني, يقطع فرحة اَللقاء .
ماذا
لو كان لقاؤنا هذا هو الأخير؟، يأتيني سؤالك مترددا.
لقاؤنا القادم سيكون البداية, في قريتكم, في بيتكم، مع الأهل والأصدقاء...أجيبكِ بابتسامةٍ مناكفة.
في بيتنا إلهٌ قديمٌ يقيسُ الحبَّ بميزان العشيرة .
يدَك عِلى يدي أيتها الحبيبة، نمض مِعاً إلى بحرٍ بلا شطآن .
ماذا نقول لأمٍّ مسكينةٍ تنذر النذورَ, وتصلي كلَّ ليلةٍ – من خوفٍ ومن تقوى؟.
تغيبين خلف نقابِ الدّمع .
أمسح دموعَك, و القلبُ يرتجف مثل عصفورٍ خائف"
*"حزينة رأيتك أمس...نقابٌ أسود يغطي وجهَك الرّقيق، حزنٌ أصفر يغشى عينيك الذابلتين.
أمدّ يدي أصافحك، تضعين يدك يدك المغلّفة بقفٍّاز على صدرك:
لمسُكَ محرٌّم عليّ...لقد تنقُّبت.
ما أقسى نظرتَك, وصمتك!
البلادة تِلك التي أبعدتْكِ عنّي إلى الأبد.
الخوفِ, والحزن...لحظةََ ما أقسى لحظة أتراهُ الندمُ؟...وعذابُ الصحوةِ التي لا تأتي؟!
أتراه الحبُّ؟...لا يموت، وإن متنا ألف مرّة؟!.
حزيناً كنت أمس...ومذهولاً .
الحزن يسكن أعماقي, يغطِّي مساحة اَلعيش...مساحة العمر الذي تقطفينه قبل الأوان.
هنيئاً لك العمرُ الذي سيظلُّ باسمكِ إلى أنْ يفارقني.
الماضي, والحاضرُ, و الآتي أنتِ، فابقي معي لتبقى حياتي...
لا تقاليدَ فاسدة, لا مخافرَ أشباحٍ, لا شاراتٍ حمرَ تمنعنا.
تصمتين...تبتعدين...تغيبين في جبل الضباب, خلفَ قباب أوليائك الصالحين .
أصرخ في أعماقي ...أحبُّك!!!
أحبُّها أيتها المدنُ الحجريّة!...أحبُّها أيها الآلهة الملفَّقون!!.
أمدُّ يدي أمنعكِ...أنظر...فأرى محض سراب"]
كما نجده قد حافظ على الحوار الباطنيّ بوجهه التّقليديّ مخاطبا النّفس كما في قصّة "الهجرة الى الوطن" قائلا:
*"إنَّه يومُك الأخيرُ, صباحُكَ الأخيرُ...أيها التائهُ في البلاد البعيدة .
تنفَّسْ بعمق، اشحن الذاكرةَ جيِّدا ،ً احفظ صْورَ الأعداءِ، والأصدقاءِ ولا تخطئ. انظرْ حولك جيَّداً...فلن ترى هذه البلادَ مرَّة أًخرى".
وأيضا في قصّة "حارس المقبرة" نلفيه قائلا:
"[ قيَمُك, ومبادئك ترفٌ لا حاجةَ لأحدٍ به. إن لم تفعلْها أنت سيفعلها غيرُك, ويضيفُ قبراً جديداً إلى قائمة ممتلكاته. ألا يكفيك عمرٌ لتتعلّم؟...عمرٌ كاملٌ ضاع، وأنت تمسِكُ بِذَيْلِ الفضيلة، وغيرُك كان يبيع ويشتري بعمرك, وبعد أن خرجْتَ, لم تجد حتى لحظة فرحٍ تعتزُّ فيها بانتصار قيمك"]
لكنّه ما حمّله جراب وجدان ولا دنان مشاعر بل يجعله مسبارا للذّات عبر منهج الوعي في الكتابة القصصيّة، لاوعيا شعوريّا بل فكريّا وجوديّا يضبط مفهوم المواطنة ومفهوم مكابدة وهن القيم جسرا لارتقاء الوجود وسموّه..
ج/ اللّغة ومرايا الكشف:
___________________
اللّغة في مجموعة "الهجرة إلى الوطن" بسيطة لا حضورا بلاغيّا كثيفا يركّبها ويربك القارئ غير الوله بالتّعمّق والتّأويل، لكنّها رغم ذلك نسجت قصصا كشفت
وجوه الواقع ومثّلت أصدق المرايا تصويرا..
وقد نوّع الكاتب منذر غزالي مرايا الكشف في قصصه فصدحت بعدّة أصوات وقفتُ منها على ما يلي:
*شدو القضيّة في الخافق(نصّ قرار نهائيّ):
القضيّة الفلسطينيّة زمن كتابة هذه القصّة كانت الجرح العربيّ المفتوح منذ أكثر من نصف قرن، جرحا داميا ينزّ قيح الخديعة والخذلان، فصوّره نصّ "قرار نهائيّ" نارا لا تخمد وسماء عاصفة أفقها ما انغلق، ونسغ وجود يسري في العرب لا ينكرونه وإن تناسوه..
لكنّ كاتبنا وهو يخطّ فصول هذه القصّة ما كان يعلم في منهجه القصصيّ الواعي بأنّ القلم اللّاواعي يخطّ جنبا إلى جنب مع أنامله قصّة مرآة لعدوى ذلك الجرح وانشاره في جسد الوطن العربيّ بدءا من أقرب الأمصار إليه أي سوريا والعراق..
القضيّة في النّصّ تشدو، وفي نهايتها [غيمةٌ كثيفةٌ من الدخان, وضوء سيجارةٍ يخبو ويتوهّج.] يعلو نحيب التّشظّي بين التّرمّد والضّياء.. والنّصّ مرآة لا تضنّ بما تراه فتكشفه..
*تردّي القيم في مجتمعاتنا:(قصّة حارس المقبرة):
لا أحد ينكر واقع تردّي القيم، ولا هو غاب عن أثر قصصيّ.. ولكنّ الكاتب منذر غزالي في قصّته "حارس المقبرة" يصوّره في أبشع تمظهراته حيث يمسي الموت مناسبة للخداع وتمسي الطيبة والإحسان منبعا للتّأذّي حدّ موت الرّوح، ويبيت الشّكّ حقيقة والحقيقة باطلا..
هي قصّة مرآة لذلك التّردّي في كلّ ثنايا الحياة النّفسيّة منها والمادّيّة والاجتماعيّة والفكريّة والسّياسيّة.. وهو تردّ ينخر الوجود الإنسانيّ عامّة والوجود العربيّ خاصّة.. وما أبدعها مرآة وما أصدقها..
*ترانيم خطى الوجود الإنسانيّ: (قصّة رسالة)
هل لنا في خطى وجودنا عبق تقرير منتهاها..؟ أنّى لنا والقدر من خلف السّتار كلاعب عرائس الدّمى يؤرجحها فيؤخّر منها ما يشاء أو يعرقله، ويهبها ما شاء من مرافئ حين يضنّ بالعطاء أو يجزله، صادحا بترانيمها؟
موقف وجوديّ يرسمه الكاتب في قصّته ذي جاعلا منها مرآة كاشفة لمخبوء بين خطانا ندفعها ولا نعلم أيّ رسائل الأقدار قد تصلنا..
*أنين الوطن:(قصّة الهجرة إلى الوطن):
["صورةَ أَمِّه القانعةِ، الراضية بما قدَّرَه الله, تهزُّ سريرَ أخته الصغرى كي تنامَ.
أغنيتها الحزينة، وشرودُها الطويلُ, تثير الحزنَ في داخله، يلصق جسده الصغيرَ بها، وهو يهرب من البكاء، يدُها الناعمة تمتدُّ نحوه، تُهَدْهِدُه، تداعب وجهَه، تمسحُ الدمعَ المنسابَ على وجنتيه، يُلقي رأسه في حضنها باطمئنان، العَرَق ينزُّ من جبهتِه, واليدُ الحنونُ تمسِّدُ الوجهَ الصغيرَ...تنتقلُ إلى عنقِه، تصبح ثقيلةً، يشعرُ بها تضغط على كتفِه, وصدرِه"]
________كيف يئنّ الوطن؟ لنظفر بجواب لهذا السّؤال الحارق علينا التّجوال بين ثنايا قصّة "الهجرة إلى الوطن" فقرة فقرة وجملة جملة..
الوطن يئنّ والجلّاد على بنيه يجور..
الوطن يئنّ وبنوه يهجرونه وما كان له في تهجيرهم ذنب..
الوطن يئنّ وبنوه تشرّد الغربة أرواحهم وتثخنها يتما..
للوطن في ذي القصّة أنّات لا تنتهي، وطنا صغيرا ووطنا أمّة كبيرا، ووطنا وجودا لا مذاق فيه لغير العلقم في الخطى... وبين الحزن والهدهدة وثقل الكلكل تتعالى تلك الأنّات كما تصوّرها مرآة قصّة "الهجرة إلى الوطن" في ذي المجموعة القصصيّة المائزة..
*خيبات العرب(قصّة خيمة وصحراء وطلقة مسدّس):
هي خيبة عرّت خيبات.. خيبة قرار سياسيّ عسكريّ أسقطت أقنعة شعارات القوميّة العربيّة ومناهضة الامبرياليّة والاستقلال العربيّ ونعمة الحرّيّة.. خيبات كابدها العربيّ ولا يزال يكابدها ولن تواريه خيمة ولن تفتح صحراء العمر حضنها لتخلّصه من آهاته كما لن تنجيه منها طلقة مسدّس..
خيبات بحجم وجود ثقيل الكلكل لا نني نكابده، رسمها المبدع منذر غزالي بسرد لن نرتوي من عذوبته..
*الجور على الرّوح باسم الدّين(حدث الآن.. حدث الأمس):
المقدّس.. الحرام والحلال.. النّار والجنّة.. سلاح الجهل اليوم في وجه الحياة، وفي تسبقة المعطوف عليه لي كلّ القصد..
ما وُجد الدّين إلّا بلسما لجراح السّير في عتمة الوجود الرّوحيّ ومنارة تهدي إلى سبل السّلامة ونحن نشقّ الحياة، ودفق زمزم يجعل ماء الحياة زلالا.. لكنّه بات في مجتمعاتنا سيفا مسلولا في وجه الحياة تحت شعار "التّشدّد الدّينيّ" والدّين منه براء والرّوح به ضاجّة وعساها من بوتقة دجاه تنجو..
*ثنائيّة الأمل واليأس شرطا للحياة(قصّة تلك اللّيلة)
كأنّ الكاتب وهو يسرد لنا هذه القصّة المخاتلة على بساطتها يتحدّانا أن ندرك أنّ الواقعيّة لا تخلو من بنية دلاليّة عميقة تخبئ في جرابها أجراس الفكر تصهل كخيول فجر طليقة تهلّل للحياة النّديّة رغم قساوة ألجمة لاتزال بها عالقة وأعنّتها إليها مشدودة..
في ثنايا القصّة فوح خمائل الوجود بحدّيه لا ننتشي به فنثمل إلّا إن تأنّت خطانا الموغلة فيها.. ومن لا يمتصّ الشّهد ببطء الطّفولة لا يظلّ منه له في الشّفتين عذوبة بتلمّظها يسعد...
*وحدة الرّوح وإن تجزّأ الوطن إلى أمصار(قصّة خالد السّوريّ):
حين يموت ابن الوطن الشّقيق(خالد السّوريّ) في وغى الدّفاع عن لبنان(اسما لوطن كناية عن كلّ الأوطان الشّقيقة)وحبيبته إلى أهله في قريته السّورية ترتحل، تفوح من ثنايا القصّ تجذّر الرّوح العربيّة في الدّم السّاري في العروق صادحة بأننا بنو ذي الأمّ وأنّ تلك الحدود وهم، وأنّا نموت هنا ليحيوا هناك، ويموتون هناك لتخضوضر فينا الحياة، وأنّ ما وهبه اللّه لا تفتكّه أيادي أعدائه وإن نجحوا في إيهامنا بذلك..
د/النّهايات المفتوحة في"الهجرة إلى الوطن":
_____________________________
يسيطر انفتاح النّهايات على المجموعة القصصيّة "الهجرة إلى الوطن" كما يسيطر النّفس الدّراميّ الحزين..
حزن يسري في القصص يرسم مآسي الفكر والرّوح والوطن والإنسانيّة في بعدها العميق، وانفتاح يزقّ فراخ الأمل نسغ الحياة ليظلّ "على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة" صورة شعريّة ردّدها قبلا شاعر الوطن والحياة الرّاحل محمود درويش وانتثارات عطر تعبق بها، هنا، نهايات قصص الكاتب منذر غزالي..
وكأنّنا به ما ارتوى قلمه بالرّسائل التي دفقت من نسيج الأحداث فحمّل نهاياتها رسائل الأمل، تنبجس من رحم الألم، والانتظار، تفوح من أعطاف أنين الانشطار، والخلود يمتدّ ما امتدّ الفعل الإنسانيّ في هذا الوجود...
_________إنّ النّسيج الفنّيّ للمجموعة القصصيّة "الهجرة إلى الوطن" يُجلي الحجب عمّا التبس علينا فهمه من العنوان، حيث تنقشع عتمة الغرابة عن الهجرة إلى الوطن وتتبدّى لنا في أروع تجلّيات مشروعيّتها، إذ هي تلك الهجرة إلى الوطن روحا، تهنا عن دروبها زمنا غرقا في مادّيّة الوجود ودوغمائيّته، وقيما وارتها أحقابا متلاحقة عواصف الانبتات كنتيجة حتميّة لاغتراب روحيّ طال،وهويّة لا تني ماسونيّة مجنونة تتفنّن في مراودتها لتسحقها منذ قرن يزيد، وقضيّة وجود تسكننا تتلجلج فينا كجنين في شهره الأخير يضنينا سهرا في انتظار وفادته والرّحم به لا يتمخّض، وديدنا يحكم خطانا يدفعه أمل ويعرقله يأس كدأب سيزيفيّ للحياة صوّرته الأسطورة قديما ورسمته القصّة الان، وقدرا يحكمنا إذ نشاء ويرسل هو لنا ما يشاء أنّى عنّ له أن يشاء،فخيبات نكابدها بسبب واقع سياسيّ يؤكّد أنّ الاستقلال يوما كان موهوما وأنّ لا قرار وطنيّ بأيدينا ولو بحّت الحناجر بالهتاف:" وطن عربيّ واحد، همّ عربيّ واحد.."، ثمّ هي هجرة إلى وطن نخالنا فيه نمضي ونحن أنأى عنه من القطبين، لا نسمع أنّاته ولا ندرك غرغراته ونظلّ نخال أنّنا نحيا فيه للننعم أو نُعدم ونحن لا ندرك أنّ الموت فيه خلود...
كما أنّ الهجرة إلى الوطن في هذه المجموعة القصصيّة المائزة هي هجرة إلى الواقعيّة مدرسة قصصيّة وطنا أمّا فيه نشأ القصّ وفي أفيائه ترعرع ومن زلال أساليبه أينع فجادت غصونه بعذب الرّطب وتناثرت زهوره على أديم الأدب فأينعت مدارس جديدة تحمل ذاك النّسغ وتعبق ببعض شذاه...
ما أبدع القريحة وهي تحمّل عنوانا كلّ هذه المعاني الخصيبة وما أروع أن يظفر بها التّوغّل المسآل..
ختاما:
________
لا قول يفي أيّ أثر أدبيّ مائز كالمجموعة القصصيّة "الهجرة إلى الوطن" استقراء وهو يكتفي ببعض أسطر أو صفحات.
ولا قول منتهى للاحتفاء بالكتابة الواقعيّة مهما تلتها مدارس قصصيّة أخرى تكاد تدحضها ما دام الكاتب قادر على الإبداع فيها .

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد

close
Banner iklan disini