الثلاثاء، 7 مارس 2017

عندما سقطَ الحلمُ مَغشيّاً عليهِ- بقلم الكاتبة- ريتا الحكيم

 كلّما تواريتُ في حضنِها طلباً لعناقٍ وقبلةٍ، تُربّتُ على كتفي وبأصابعِها تُمسّدُ شعري، وأنا من فرحٍ أغفو قبلَ أن تُكملَ لي حُلُمَها الذي أرّقَ مضجعَها منذُ وفاةِ أبي، أستمعُ إليها وهي ترويهِ وكأنه قصةٌ حقيقيةٌ، رغمَ أنني لم أعدْ أذكرُ عددَ المرّاتِ التي حكتْ لي فيها عن ذاكَ الحُلُمِ الذّهبي، إلا أنني أستمتعُ به وكأنني أسمعُهُ للمرّة الأولى. أتعجّبُ من قدرتِها على بثّ الحياةِ فيه؛ فتبدو شخوصُه تتنفسُ وتتكلم، وتفرح وتبكي. مهارتُها في سردِهِ تكمنُ في حبّها لِمَن فقدَتْهُ وشوقِها الذي لم يذوِ. لا أدري لِمَ تُصِرّ على أنهُ لم يفارقْها على مدى سنوات، وأعتقدُ أنها تُرتّلُهُ صلاةً، يسكنُها، وتؤمنُ به. صدّقَتهُ كحقيقةٍ ليقينِها أنّ وقائعَهُ ستحدثُ في القادمِ من أيامِها.
استفاضتْ في الكلامِ وأنا شبهُ غافيةٍ في حضنِها الدافئِ، لكنّ حواسي كلّها معها لألتقطَ أيّ تفصيلٍ فاتني في المرّات السابقةِ. لاحظتُ أنها في ذروةِ الانفعالِ حين بادرتني قائلةً: -
إنّ والدَك يُلِحّ في طلبِهِ لألتحقَ به يا ابنتي، رأيتُهُ في المنامِ يرتدي عباءةً بيضاءَ ويعتمرُ قلنسوةً بنفسِ الّلونِ، ناديتُهُ ولم أسمعْ منهُ رداً، لحقتُ به راكضةً ومعي أولادي السّبعة، وحين كدتُ أن أصِلَ إليه لم يبقَ معي أحدٌ منهم سوى أنتِ وأخاكِ الصّغير، لوّحتُ لهُ وصرختُ باسمِهِ بأعلى صوتي، أشارَ لي بيدهِ مبتسماً ودخلَ قنطرةً ناصعةَ البياضِ، وأنا في دهشةٍ وحيرةٍ. قالت لي بعدَ أن انتهت من تُحفتِها الفنيّةِ: - أنتِ جزءٌ مما رأيتُه وأخاكِ أيضاً، أنتما الآن معي، أين البقيّة؟!
 لم يعدْ حُلُمي أضغاثاً يا ابنتي، إنه يمشي على تُربتي الجّافةِ وأنا الشّجرةُ الآيلةُ إلى السّقوط في أي لحظةٍ. طأطأتُ رأسي خجلاً، بماذا أجيبُها وأنا أعلمُ تماماً مدى قساوةِ قلوبهم. إنها الآن قابَ قوسينِ أو أدنى من الموتِ، لقد بلغتِ الثّمانين ورغم أن الزهايمر تغلغلَ في ذاكرَتِها إلا أنها لم تنسَ أو بالأحرى لم ترِدْ أن تنسى؛ لأن حاسّتها السّادسة طوالَ السّنوات الماضيةِ أنبأتها أنّ حلُمَها سيحيا وستراهُ يمشي أمامَها على عكازينِ فقط، أنا وأخي.
 دقّتِ السّاعةُ ثلاثاً، هوى الجسدُ الواهنُ ورفرفتِ الرّوحُ مبتسمةً، وبجناحينِ من نورٍ حلّقتْ مخلفة عكازينّ مكسورين وحُلُماً مَغشيّاً عليهِ.
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد

close
Banner iklan disini