تعجَّبتُ لحالِهِ ..
يضحكُ حتى يملأُ فراغَ الميدانِ بجلجلةِ ضحكاته، وهو يدور حول نفسِه، فاردًا
ذراعيه كجناحينِ، حتى تخال أنه يُحلِّقُ في سماء الساحة ..
فجأة يصمت، تسكن حركته .. كل ما فيه ينكمش، ذراعاه تتدلَّيان، ثم يعقدُهما على صدره بقوةٍ؛ كأنما يحمي بهما شيئًا ما، ترتفع كتفاه لتغوص بينهما رقبته، يجلس القرفصاء في زاوية من الرصيف المتسع، يدفن رأسه بين رُكبتيْه .. ينبعث منه نشيج منخفض مايلبث يرتفع شيئًا فشيئا؛ لينخرط في بكاءٍ ساخنٍ انفطر له قلبي ..
وجدتَني مشدودًا إليه، أتوق إلى معرفة خبيئته، شجَّعني خلوده للسكون ..
اقترب منه .. يضطرب ويجفل ذُعْرًا منِّي؛ فيتراجع زاحفًا على مِقعدته مبتعدًا .. أُوجِّهُ له كفِّي مُشيرًا بالأمان، أُشعلُ سيجارة لي وأخرى له، مددتُ يدي بها إليه .. ينظر لي مُرتابًا، حتى إذا ما رأى سكوني وأمِنني؛ اختطفها من يدي واختلى بنفسه بعيدًا ـ بجوار السور الحديديِّ ـ يدخِّنُها بشراهة، وهيَ ترتعش بين أُصبعيه .. ما إن انتهى حتى استكانت أعضاؤه، وانبسطت عضلات وجهه، ثم ألجأ رأسه للحائط، وغفا ..
أمضي عائدًا حيث سيارتي ـ الرابضة غير بعيد ـ أواصل انتظار صديقي الذي يُنْهي أوراق بعثته من إدارة البعثات .. استندُ لمُقدِّمِها، تلسعني سخونةٌ اكتسبتها من أشعة شمس أغسطس، يأتيني صوتٌ من خلفي:
ــ أوَلا تعرفه؟
أستديرُ لمصدر الصوت .. لاحظ مُحدِّثي ارتباكي وإنكاري له؛ فيبتسم قائلاً:
ــ واضح أنك نسيتني أنا أيضًا يادكتور "أنس"
أحدِّثُ نفسي:" ويناديني باسمي؟! .. إذًا هو يعرفني" .. تفرَّسْتُه مَلِيًا .. الصوتُ والملامحُ مألوفان لديَّ .. يجتهد عقلي، يجترُّ صورًا بلا حصر بسرعةٍ مُذهِلةٍ .. تتلكَّأُ صورةٌ لستُ على يقينٍ منها .. أتَحسَّبُ لخجلي أن أكون مُخْطِئًا .. أتردد، أتلعْثم .. يُعاجلُني:
ــ أنا "شريف" ..
تأكَّدَ حدْسي،أُسارع فأسبقه:
ــ "شريف محسن" .. فتى الجامعة المدلل .. بطل الجودو
تعانقنا بحرارة، وأنا أعتذر منه:
ــ قاتل الله الغُربة .. خمسة عشر عامًا لم تتخلَّلها سوى إجازات قصيرة، لاتسمن ولا تغني من جوع، أنشغل فيها بأمور عائلتي .. أعترف أني قصَّرتُ في حق الرِفْقة، تناءيت حد التقوقع، التهمتنِيَ المهنة
ــ لهذا لم تعرفه ..
استثارني اتهامه، تدافع ردَّي مستنكرًا:
ــ أوأعرفه أنا؟!
اقترب مِنِّي وأومأ برأسه ناحيته:
ــ أنظر إليه جيِّدًا
رحت أتفرَّسه .. جمعت ذهني كله نحوه، تخيَّلته بدون هذا الشعر الأشعث المُلبَّد، وهذه اللحية الكثة المنطلقة؛ وقد خالطهما بعض الشيب .. دقَّقتُ في ملامح وجهه المائل للسُمْرةِ .. أصابني القنوط بعدما أعيتني الحيل، ألتفِتُ لصديقي وقد بدت له حيرتي، هزَّ رأسه يأسًا من ذاكرتي، ثم يسألني من جديد:
ــ أما سمعت عن فتىً كان يسبقنا اسمه" نوَّار"؟
.. ابتسم ساخرًا من ذاكرتي، وبعفوية أضرب جبهتي بكفِّي؛ بينما تندفع إجابتي:
ــ تقصد "نوَّار" شاعر الجامعة؟ .. هل هذا هو؟!
تغَّير وجه صديقي، واعترته جبالٌ من الأسى؛ حتى أنِّي رأَيْتُ أوائِلَ دمعاتٍ تطفرُ من مآقيه .. أدرت وجهيَ مطرقًا؛ وقد غشيتنا سِنَةٌ من صمتٍ حزين ..
أُحملق في اللاشيء .. أحداثٌ وصورٌ تأتي من وادٍ سحيق، تشخص أمامي، تنبض حياة .. "نوَّار" ذاك الشاب الريفي الطيب، الخلوق، الخجول، النحيل، الذي لا يخلو سمْتُهُ من وسامة مُحببة تجذب إليه الأنظار؛ رغم تنائيه وحبه للعُزلة ..
حين التحقت بكلية الآداب، قسم "الاجتماع" ؛ كان هو يسبقنا بعامين بقسم "اللغة العربية" .. عرفناه بداية من خلال أشعاره، ما قرأ أو سمع شعرَهُ أحدٌ إلا واجتذبته عاطفته المرهفة، وقوة بيانه، ومن المدهش أنه كان يكتب قصائد الفصحى والعامية بنفس المقدرة والاحتراف؛ فنتلقَّاها منه بانبهار وإكبار.. رومانسيٌ حالمٌ حين يناجي محبوبته .. بركانٌ يقذفُ حِممًا حين يرى مالا يرضيه، غير آبه أين تقع كلماته .. قريته وأوجاعها ـ دومًا ـ حاضرةً في صرخاته ...
ــ من عجبٍ أن طريقي بين عملي وبيتي يمرُّ من هنا ..
انتبه من شرودي على مقالة صديقي وهو يكمل:
ــ أصادفه في غُدُوِّي ورواحي في إقامةٍ شبه دائمةٍ هاهنا؛ حيث يقبع الآن ..
تزاحمت التساؤلات على رأسي .. كيف صار هذا حاله؟ .. أين أهله؟ .. أين وكيف يعيش؟ ... يعود لي صوت "شريف":
ــ هذا المكان ـ بالذات ـ شهد بداية مأساته .. لعلك تذكر ما وَصَموا به غضبتنا "بانتفاضة الحرامية"، حين خرجنا من جامعاتنا نشاطر جموع الشعب..
"نعم أذكر" .. قلت في نفشي وأنا أستدعي المشهد ..
هنا في هذه الساحة انتظمنا مع المحتجين، وقد انبرى "نوَّار" من بيننا مُعْتليًا أحد المقاعد الحجرية قرب المنتصف يصول ويجول، خطيبًا تارة، وشاعرًا أُخرَى، وثالثة هاتفًا بشعارات من وحي اللحظةِ؛ فتتلقفها الحناجر مرددةً؛ فيرتج لها المكان ..
عندما داهمنا الأمن؛ تفرَّقنا .. أفْلتَ من أفْلت، وأُلقِيَ القبض على الكثيرين؛ و"نوَّار" من بينهم ..
ــ من هذا المكان اقتادوه مقبوضًا عليه ..
أشار "شريف" قريبًا من وقفتنا، وتابع:
ــ اتهموه ـ كما الباقين ـ بالتخطيط للإضرار بأمن البلاد، وقلب نظام الحكم .. ناله ما ناله وزملاءه من فنون التعذيب ـ اثناء جلسات الاستجواب ـ الشئ الكثير ..
كان العام الدراسي قد انقضَى؛ حين حكمت المحكمة ببراءتهم، ولم يعد الفتى للدراسة من وقتها حتى تخرُّجنا .. كنا نسمع نُدَفَ أخبارٍ تتناثر عنه بين الحين والآخر، عرفنا من خلالها إلى أين انتحَى به الطريق .. أُباغت صديقي بالسؤال:
ــ ولكن كيف اهتديت إليه؟
ــ في هذا المكان التقيته .. لم تكن هذه هيئته ولا تدهور به الحال كما هو الآن، تبدَّلتْ أحواله، أصبح عنيدًا، شرسًا .. كلما خرج من سجنٍ أو اعتقال تزداد أشعاره اشتعالاً.. نقدًا، وسُخْريَّةً، وهِجاءً، وما يعتبرونه تكديرًا للسلم العام؛ فتجُرُّه القيود إليها المرة تلو المرة، ويناله ما يناله من فنون الزبانية ... حتى صار إلى ما تري .. سنوات وهو لا يغادر بعيدًا عن هذا المكان، لا يأبه بأحد، ولا يأبه له أحد ..
وخْذُ الجفْوَةِ يؤلمني .. يجْلِدُني هذا الساكن بين جوانحي: "أحببت ذاتك، واستعذبت انفرادك، استغنيت بدائرتك الضيِّقةِ عمن كنت بينهم وفيهم ملء السمع والبصر .. هل تعرف أين هم الآن؟ .. من مات، ومن هو حيٌّ يُرزق؟! .. كم هو ثمن باهظٌ، قاتلٌ .. من أجل طموحك، وتطلعاتك أهملت حبال وصالك حتى اهترأت .. ضنَّت شجرتك بفيئِها على من لجأ إليها؛ ففرُّوا مبتعدين عن لعنتها إلى دوحات كريمة تُظلُّهم، ويبادلونها العطاء، وبقيت وحدك .. غريبًا، منكورًا .. حتى هؤلاء الذين تحيا في كنفهم؛ لا يرون فيك سوى ذلك النبع الذي تفجَّر لهم وحدهم ليلبي رغباتهم .. يالك من تعس"
دون إرادتي تتجاوز حلْقي الكلمات: " يالك من تعس .."
يلتفت "شريف" نحوي وهو يُؤمِّنُ على ما سمع مِنِّي، وقسمات وجهه تشي بالألم:
ــ نعم .. وهل هناك تعاسة أكثر مما صار إليه؟
ابتلعتها، ولم أشأ أن أصحح ما تفوَّهت به .. أبديت له رغبتي في المساعدة، وأن يشير عليَّ بما يري، لكنه ربت على كتفي وهو يهمس لي:
ــ هوِّن على نفسك .. عفة نفسه تمنعه، لا يقبل ممن ينكرهم
ــ كيف يعيش إذن؟!
ــ نعُودُه بين الحين والحين أنا ونذرٌ يسيرٌ من الأصدقاء..
سعالٌ خفيفٌ يأتينا منه؛ يبشُّ له صديقي:" ها قد صحا .."
نمضي نحوه، نقترب منه .. نظرات زائغة يُطْلقها في الفراغ، ويغمغم بكلماتٍ غير مفهومة .. يرسل بعدها ضحكةً خافتةً محملة بسُخْرية غامضة، ثم يصمت .. نجلس بجواره .. ينتبه لنا
، ينظر نحو "شريف" مبتسمًا، ثم يلتفت نحوي .. من حسن الطالع أنه لم ينكرني، يسْري في كياني شعورٌ بالراحةِ يُشجِّعُني .. مُتودِّدًا؛ اقترب منه أكثر، اُشعِل سيجارتين لي وله .. يتناولها مني بلا وجل هذه المرَّة .. يتململ ـ والسيجارة في فمه ـ كأنما يبحث عن شيء ما في جيوب سترته البالية .. يسكُن وتتسعُ ابتسامته؛ وقد أخرج منها دفترًا متوسطًا، اعتراه الاصفرار، وتآكلت حوافه، يفتحه عند صفحة بعينها .. فاجأني وهو يمد يده ويقدمه لي .. المِداد قد بهت ولكنه مقروء .. يا إلهي، إنها قصيدته الشهيرة "أيها الراحلون" .. أذكر أننا كنا ننسخها ونتبادلها ـ سرًا ـ بيننا، بعيدًا عن أعين الأمن ووشاتهم المتخللين صفوفنا .. ذاع صيتها في أرجاء الجامعة، بل والجامعات الأخرى، وأوساط المثقفين ..
هزَّ ركبتي ولسان حاله يستحثني لأقرأ .. ما أن تلوتُ السطرين الأولين حتى تداعت القصيدة بكاملها على ذاكرتي .. نحَّيْتُ الدفتر جانبًا، ورحت أصولُ وأجولُ بأبياتها؛ فإذاه ينتفش باسمًا، ويهبُّ واقفًا، وكأنما احتسى شراب السعادة والنشوة .. يبتعد عنا قليلاً، وأنا أواصل الإلقاء، يضحك .. تُجلْجِلُ ضحكاته في الميدان، وهو يدُورُ حول نفسه .. أشاطره الدوران كراقِصَيِّ "تنورة" وكلانا فاردًا ذراعيه وكأنهما جناحان، يكادُ يُحلِّقُ بهما ..
فجأة يصمت، تسكن حركته .. كل ما فيه ينكمش، ذراعاه تتدلَّيان، ثم يعقدُهما على صدره بقوةٍ؛ كأنما يحمي بهما شيئًا ما، ترتفع كتفاه لتغوص بينهما رقبته، يجلس القرفصاء في زاوية من الرصيف المتسع، يدفن رأسه بين رُكبتيْه .. ينبعث منه نشيج منخفض مايلبث يرتفع شيئًا فشيئا؛ لينخرط في بكاءٍ ساخنٍ انفطر له قلبي ..
وجدتَني مشدودًا إليه، أتوق إلى معرفة خبيئته، شجَّعني خلوده للسكون ..
اقترب منه .. يضطرب ويجفل ذُعْرًا منِّي؛ فيتراجع زاحفًا على مِقعدته مبتعدًا .. أُوجِّهُ له كفِّي مُشيرًا بالأمان، أُشعلُ سيجارة لي وأخرى له، مددتُ يدي بها إليه .. ينظر لي مُرتابًا، حتى إذا ما رأى سكوني وأمِنني؛ اختطفها من يدي واختلى بنفسه بعيدًا ـ بجوار السور الحديديِّ ـ يدخِّنُها بشراهة، وهيَ ترتعش بين أُصبعيه .. ما إن انتهى حتى استكانت أعضاؤه، وانبسطت عضلات وجهه، ثم ألجأ رأسه للحائط، وغفا ..
أمضي عائدًا حيث سيارتي ـ الرابضة غير بعيد ـ أواصل انتظار صديقي الذي يُنْهي أوراق بعثته من إدارة البعثات .. استندُ لمُقدِّمِها، تلسعني سخونةٌ اكتسبتها من أشعة شمس أغسطس، يأتيني صوتٌ من خلفي:
ــ أوَلا تعرفه؟
أستديرُ لمصدر الصوت .. لاحظ مُحدِّثي ارتباكي وإنكاري له؛ فيبتسم قائلاً:
ــ واضح أنك نسيتني أنا أيضًا يادكتور "أنس"
أحدِّثُ نفسي:" ويناديني باسمي؟! .. إذًا هو يعرفني" .. تفرَّسْتُه مَلِيًا .. الصوتُ والملامحُ مألوفان لديَّ .. يجتهد عقلي، يجترُّ صورًا بلا حصر بسرعةٍ مُذهِلةٍ .. تتلكَّأُ صورةٌ لستُ على يقينٍ منها .. أتَحسَّبُ لخجلي أن أكون مُخْطِئًا .. أتردد، أتلعْثم .. يُعاجلُني:
ــ أنا "شريف" ..
تأكَّدَ حدْسي،أُسارع فأسبقه:
ــ "شريف محسن" .. فتى الجامعة المدلل .. بطل الجودو
تعانقنا بحرارة، وأنا أعتذر منه:
ــ قاتل الله الغُربة .. خمسة عشر عامًا لم تتخلَّلها سوى إجازات قصيرة، لاتسمن ولا تغني من جوع، أنشغل فيها بأمور عائلتي .. أعترف أني قصَّرتُ في حق الرِفْقة، تناءيت حد التقوقع، التهمتنِيَ المهنة
ــ لهذا لم تعرفه ..
استثارني اتهامه، تدافع ردَّي مستنكرًا:
ــ أوأعرفه أنا؟!
اقترب مِنِّي وأومأ برأسه ناحيته:
ــ أنظر إليه جيِّدًا
رحت أتفرَّسه .. جمعت ذهني كله نحوه، تخيَّلته بدون هذا الشعر الأشعث المُلبَّد، وهذه اللحية الكثة المنطلقة؛ وقد خالطهما بعض الشيب .. دقَّقتُ في ملامح وجهه المائل للسُمْرةِ .. أصابني القنوط بعدما أعيتني الحيل، ألتفِتُ لصديقي وقد بدت له حيرتي، هزَّ رأسه يأسًا من ذاكرتي، ثم يسألني من جديد:
ــ أما سمعت عن فتىً كان يسبقنا اسمه" نوَّار"؟
.. ابتسم ساخرًا من ذاكرتي، وبعفوية أضرب جبهتي بكفِّي؛ بينما تندفع إجابتي:
ــ تقصد "نوَّار" شاعر الجامعة؟ .. هل هذا هو؟!
تغَّير وجه صديقي، واعترته جبالٌ من الأسى؛ حتى أنِّي رأَيْتُ أوائِلَ دمعاتٍ تطفرُ من مآقيه .. أدرت وجهيَ مطرقًا؛ وقد غشيتنا سِنَةٌ من صمتٍ حزين ..
أُحملق في اللاشيء .. أحداثٌ وصورٌ تأتي من وادٍ سحيق، تشخص أمامي، تنبض حياة .. "نوَّار" ذاك الشاب الريفي الطيب، الخلوق، الخجول، النحيل، الذي لا يخلو سمْتُهُ من وسامة مُحببة تجذب إليه الأنظار؛ رغم تنائيه وحبه للعُزلة ..
حين التحقت بكلية الآداب، قسم "الاجتماع" ؛ كان هو يسبقنا بعامين بقسم "اللغة العربية" .. عرفناه بداية من خلال أشعاره، ما قرأ أو سمع شعرَهُ أحدٌ إلا واجتذبته عاطفته المرهفة، وقوة بيانه، ومن المدهش أنه كان يكتب قصائد الفصحى والعامية بنفس المقدرة والاحتراف؛ فنتلقَّاها منه بانبهار وإكبار.. رومانسيٌ حالمٌ حين يناجي محبوبته .. بركانٌ يقذفُ حِممًا حين يرى مالا يرضيه، غير آبه أين تقع كلماته .. قريته وأوجاعها ـ دومًا ـ حاضرةً في صرخاته ...
ــ من عجبٍ أن طريقي بين عملي وبيتي يمرُّ من هنا ..
انتبه من شرودي على مقالة صديقي وهو يكمل:
ــ أصادفه في غُدُوِّي ورواحي في إقامةٍ شبه دائمةٍ هاهنا؛ حيث يقبع الآن ..
تزاحمت التساؤلات على رأسي .. كيف صار هذا حاله؟ .. أين أهله؟ .. أين وكيف يعيش؟ ... يعود لي صوت "شريف":
ــ هذا المكان ـ بالذات ـ شهد بداية مأساته .. لعلك تذكر ما وَصَموا به غضبتنا "بانتفاضة الحرامية"، حين خرجنا من جامعاتنا نشاطر جموع الشعب..
"نعم أذكر" .. قلت في نفشي وأنا أستدعي المشهد ..
هنا في هذه الساحة انتظمنا مع المحتجين، وقد انبرى "نوَّار" من بيننا مُعْتليًا أحد المقاعد الحجرية قرب المنتصف يصول ويجول، خطيبًا تارة، وشاعرًا أُخرَى، وثالثة هاتفًا بشعارات من وحي اللحظةِ؛ فتتلقفها الحناجر مرددةً؛ فيرتج لها المكان ..
عندما داهمنا الأمن؛ تفرَّقنا .. أفْلتَ من أفْلت، وأُلقِيَ القبض على الكثيرين؛ و"نوَّار" من بينهم ..
ــ من هذا المكان اقتادوه مقبوضًا عليه ..
أشار "شريف" قريبًا من وقفتنا، وتابع:
ــ اتهموه ـ كما الباقين ـ بالتخطيط للإضرار بأمن البلاد، وقلب نظام الحكم .. ناله ما ناله وزملاءه من فنون التعذيب ـ اثناء جلسات الاستجواب ـ الشئ الكثير ..
كان العام الدراسي قد انقضَى؛ حين حكمت المحكمة ببراءتهم، ولم يعد الفتى للدراسة من وقتها حتى تخرُّجنا .. كنا نسمع نُدَفَ أخبارٍ تتناثر عنه بين الحين والآخر، عرفنا من خلالها إلى أين انتحَى به الطريق .. أُباغت صديقي بالسؤال:
ــ ولكن كيف اهتديت إليه؟
ــ في هذا المكان التقيته .. لم تكن هذه هيئته ولا تدهور به الحال كما هو الآن، تبدَّلتْ أحواله، أصبح عنيدًا، شرسًا .. كلما خرج من سجنٍ أو اعتقال تزداد أشعاره اشتعالاً.. نقدًا، وسُخْريَّةً، وهِجاءً، وما يعتبرونه تكديرًا للسلم العام؛ فتجُرُّه القيود إليها المرة تلو المرة، ويناله ما يناله من فنون الزبانية ... حتى صار إلى ما تري .. سنوات وهو لا يغادر بعيدًا عن هذا المكان، لا يأبه بأحد، ولا يأبه له أحد ..
وخْذُ الجفْوَةِ يؤلمني .. يجْلِدُني هذا الساكن بين جوانحي: "أحببت ذاتك، واستعذبت انفرادك، استغنيت بدائرتك الضيِّقةِ عمن كنت بينهم وفيهم ملء السمع والبصر .. هل تعرف أين هم الآن؟ .. من مات، ومن هو حيٌّ يُرزق؟! .. كم هو ثمن باهظٌ، قاتلٌ .. من أجل طموحك، وتطلعاتك أهملت حبال وصالك حتى اهترأت .. ضنَّت شجرتك بفيئِها على من لجأ إليها؛ ففرُّوا مبتعدين عن لعنتها إلى دوحات كريمة تُظلُّهم، ويبادلونها العطاء، وبقيت وحدك .. غريبًا، منكورًا .. حتى هؤلاء الذين تحيا في كنفهم؛ لا يرون فيك سوى ذلك النبع الذي تفجَّر لهم وحدهم ليلبي رغباتهم .. يالك من تعس"
دون إرادتي تتجاوز حلْقي الكلمات: " يالك من تعس .."
يلتفت "شريف" نحوي وهو يُؤمِّنُ على ما سمع مِنِّي، وقسمات وجهه تشي بالألم:
ــ نعم .. وهل هناك تعاسة أكثر مما صار إليه؟
ابتلعتها، ولم أشأ أن أصحح ما تفوَّهت به .. أبديت له رغبتي في المساعدة، وأن يشير عليَّ بما يري، لكنه ربت على كتفي وهو يهمس لي:
ــ هوِّن على نفسك .. عفة نفسه تمنعه، لا يقبل ممن ينكرهم
ــ كيف يعيش إذن؟!
ــ نعُودُه بين الحين والحين أنا ونذرٌ يسيرٌ من الأصدقاء..
سعالٌ خفيفٌ يأتينا منه؛ يبشُّ له صديقي:" ها قد صحا .."
نمضي نحوه، نقترب منه .. نظرات زائغة يُطْلقها في الفراغ، ويغمغم بكلماتٍ غير مفهومة .. يرسل بعدها ضحكةً خافتةً محملة بسُخْرية غامضة، ثم يصمت .. نجلس بجواره .. ينتبه لنا
، ينظر نحو "شريف" مبتسمًا، ثم يلتفت نحوي .. من حسن الطالع أنه لم ينكرني، يسْري في كياني شعورٌ بالراحةِ يُشجِّعُني .. مُتودِّدًا؛ اقترب منه أكثر، اُشعِل سيجارتين لي وله .. يتناولها مني بلا وجل هذه المرَّة .. يتململ ـ والسيجارة في فمه ـ كأنما يبحث عن شيء ما في جيوب سترته البالية .. يسكُن وتتسعُ ابتسامته؛ وقد أخرج منها دفترًا متوسطًا، اعتراه الاصفرار، وتآكلت حوافه، يفتحه عند صفحة بعينها .. فاجأني وهو يمد يده ويقدمه لي .. المِداد قد بهت ولكنه مقروء .. يا إلهي، إنها قصيدته الشهيرة "أيها الراحلون" .. أذكر أننا كنا ننسخها ونتبادلها ـ سرًا ـ بيننا، بعيدًا عن أعين الأمن ووشاتهم المتخللين صفوفنا .. ذاع صيتها في أرجاء الجامعة، بل والجامعات الأخرى، وأوساط المثقفين ..
هزَّ ركبتي ولسان حاله يستحثني لأقرأ .. ما أن تلوتُ السطرين الأولين حتى تداعت القصيدة بكاملها على ذاكرتي .. نحَّيْتُ الدفتر جانبًا، ورحت أصولُ وأجولُ بأبياتها؛ فإذاه ينتفش باسمًا، ويهبُّ واقفًا، وكأنما احتسى شراب السعادة والنشوة .. يبتعد عنا قليلاً، وأنا أواصل الإلقاء، يضحك .. تُجلْجِلُ ضحكاته في الميدان، وهو يدُورُ حول نفسه .. أشاطره الدوران كراقِصَيِّ "تنورة" وكلانا فاردًا ذراعيه وكأنهما جناحان، يكادُ يُحلِّقُ بهما ..