الأحد، 2 يوليو 2017

خبز حنطة – بقلم – أحمد جلال صالح

على العكس من أمي التي في العادة يرافق دمعها نشيج أو نحيب أو صراخ حتى, أذكر أنني رأيت دموع أبي لأول مرة وهي تسيل بصمت, كان يشاهد على التلفاز كاظم الساهر وهو يغني غناء يشبه التعديد: تذكّر, كلما صليت ليلا, ملايينا تلوك الصراخ خبزا...
لم تكن صورة الساهر تعرض على شاشة التلفاز أثناء غنائه, بل كانت صورا لأطفال بأقفاص صدرية بارزة, وعيون جاحظة, ورؤوس منتفخة.
أذكر أن أبي قام إلى التلفاز ولمّا تنتهي الأغنية فأطفأه, دخل حزينا وغاضبا إلى غرفته ثم خرج وهو يضغط خصره بحزامه العسكري, هو ضابط في الجيش يقاتل الأعداء الذين فرضوا حصارا تسبب بما أشاهده على التلفاز.
وكانت وظيفته هذه مدعاة لمفاخرة ابن جارنا الذي طالما رأيته يأكل خبز الشعير, كنت أقول له, وأنا أحمل خبز الحنطة, ما كان يقوله أبي دائما: يا بني إن الوطن لا يعطي إلا من يدافع عنه.
كنت أقول قول أبي ثم أبين معناه: ها أنا آكل خبز الحنطة وأنت تأكل الشعير, لأن أبي مقاتل وأبوك ليس سوى معلّم, هكذا أقولها ( شعير) أتعمد أن لا أسبقها بكلمة ( خبز (
كنت أفاخره - رغم أنني لست متأكدا تماما – بأن أبي منذ أسبوع يخرج كل يوم بعد صلاة العشاء يقاتل الأعداء وراء التلّ, كنت أقول هذا دائما حتى سمعت أبي يوما يقول لأمي بأنه أكمل الحفر ولم يبق إلا الدفن, تيقنتُ أنه كان يقتل الأعداء ثم يحفر لهم ويدفنهم كي لا يدوس أحد من الناس عظامهم, فيصيبه الشلل كما يحصل حين تداس عظام الأفاعي المقتولة.
بينما كنت أفكر بهذا فإذا بأبي يفتح الباب, تفاجأ إذ كنت استرق السمع فصفعني ثم مضى إلى ما وراء التل, لتسألني أمي إن كنت سمعت شيئا أو لا, فأجبتها بأنني سمعت أبي يتحدث عن الحفر والدفن.
أظن أن أمي وقتها لم تكن لتخبرني الحقيقة لولا أنها خشيت أن ترعبني حكاية الحفر والدفن هذه, قالت لي: يا بني سأقول لك كلاما, لكن احذر أن تقوله لأي أحد, الدولة تلزم الفلاحين بتسليم الحنطة مقابل مبالغ زهيدة وتعاقب من يخالف, لذلك أبوك يدفن الحنطة في أرضنا التي وراء التل, صحيح أن الدولة بحاجة إلى الحنطة بسبب الحصار, لكن الأرض التي تنتج الحنطة هي أرض أبيك والكف التي تنثر فيها البذور هي كف أبيك, فلماذا عليه أن يبيع منتوجها بثمن بخس؟
أذكر أنني اعتبرت كلام أمي محقا, لكنني بعدها لم أخرج إلى ابن جارنا أحمل خبزتي أبدا.
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد

close
Banner iklan disini