عندما كان ذاك الطفل يشعر بالجوع،
كان يذهب كعادته ليقف أمام باب الفرن، عله ينسى جوعه بتأمل الأرغفة الطازجة، وبشم
رائحتها الطيبة. ولكنه كان يشعر بالمزيد من الجوع، فيحدق بحقد دفين بصاحب الفرن المعفر
بالطحين، حيث هو جاثم قرب الباب بعجيزته الضخمة على أكياس الطحين المتناثرة حوله ،
وهو يربت على كرشه المندلق بين فخذيه، كلما أخذ النقود من الزبائن، وناولهم
الأرغفة بعد عدها والتأكد من وزنها.
وعندما كان يشتد إحساسه بالجوع، كان يتربص متحفزاً، مقترباً ببطء من باب الفرن المفتوح على مصراعيه، ريثما يغالب النعاس صاحب الفرن، ليقفز خاطفاً رغيفاً ساخناً، خرج للتو من كوة النار، ليدسه تحت قميصه الرث، ويركض بأقصى سرعة ممكنة، غير عابئ بحرارة الرغيف اللاهبة، منزلقاً بين الأزقة الضيقة المتلفعة بالظلال القاتمة.
وبرغم دقة حركاته، وخفتها، وسرعته، ومهارته في اقتناص الفرص المناسبة، كان لا يحالفه الحظ غالباً. فيتمكن صاحب الفرن من إلقاء القبض عليه بيده الضخمة كيفما اتفق، فينزع الرغيف منه، و يوسعه ضرباً على قدميه حتى تتورما، فلا يعود قادراً على الجري لعدة أيام، برغم جوعه.
وعلى الرغم مما قد يحدث، يعاود تكرار الفعلة ذاتها، متعللاً بالنجاح والنجاة في كل مرة.
أما إذا أفلح بالهروب من صاحب الفرن، الذي لا يكف عن سبه بأقذع الشتائم، فإنه يذهب مسرعاً، منتعشاً بحرارة الرغيف، ورائحته، لأي مكان يلتقي فيه رفاقه.
حيث يأكل ببطء ملتذاً بكل ذرة من الرغيف، وهو يوزع بعض النتف الصغيرة على لداته الذين يشاركونه الجوع ذاته، ولكنهم لا يجرؤن على غير الإصغاء لحكاياته مع صاحب الفرن، والضحك قدر الإمكان، دون إثارة أدنى ضجة.
كان يخاطبهم بحماس، بعد التهام الرغيف، وهدوء الجوع لبعض الوقت:
- عندما أكبر سأعمل شرطياً..
ويردف، بحزم أكبر منه:
- سأذهب إلى صاحب الفرن.. و آمره أن يوزع الخبز مجاناً على الذين لا يملكون أي شيء.. وأن يأخذ النقود فقط من الذين يملكون المال.
ويستطرد، وهو يحدق بعيون الصغار التي قد توهجت بالأمل وهي ترنو إليه بفرح:
- عندئذٍ لن يكون ثمة فقراء.. يسرقون الخبز.
* * *
وهو يتجول بزهو ببذلة الشرطة الجديدة ذات الأزرار الذهبية البراقة.
ركض نحوه رجل بدين، يصرخ والزبد يتناثر من فمه الأدرد:
- أيها الشرطي.. أرجوك أنقذني.. اللص سرقني وفر هارباً.
ينظر الشرطي بحزم، حيث أشارت السبابة المتورمة، فيرى طيفاً يختفي في الزقاق الأكثر ظلمة في الحي العتيق، فيركض خلف الطيف الهارب، هاتفاً:
- قف..
ويؤكد الشرطي بصوت قوي:
- قف باسم القانون..
ويتصاعد صياح الشرطي:
- قف وإلا أطلقت عليك النار..
وعندما لا ينصاع الشبح اللاهث للأوامر الحازمة، يوجه الشرطي بذراع ثابتة فوهة المسدس نحوه تماماً، ويضغط على الزناد بحرص، دونما أن تهتز يده.
فيدوي الزقاق الضيق بأزيز الرصاصة التي أخرست الصوت في أنحاء الحارة لحظة السقوط.
يقترب الشرطي غير مكترث، نحو الجثة الضئيلة المتكومة على نفسها، وصدى وقع حذائه العسكري يعصف في زوايا الزقاق الصامت.
..عندئذٍ فقط تذكر الشرطي..
إن الذي أشار له هو صاحب الفرن ذاته، الذي كان يركض خلفه، عندما كان بعمر القتيل- المسجى عند قدميه- القابض بيدٍ متشنجة على رغيف أحمر، ساخن، يقطر دماً طازجاً!.
وعندما كان يشتد إحساسه بالجوع، كان يتربص متحفزاً، مقترباً ببطء من باب الفرن المفتوح على مصراعيه، ريثما يغالب النعاس صاحب الفرن، ليقفز خاطفاً رغيفاً ساخناً، خرج للتو من كوة النار، ليدسه تحت قميصه الرث، ويركض بأقصى سرعة ممكنة، غير عابئ بحرارة الرغيف اللاهبة، منزلقاً بين الأزقة الضيقة المتلفعة بالظلال القاتمة.
وبرغم دقة حركاته، وخفتها، وسرعته، ومهارته في اقتناص الفرص المناسبة، كان لا يحالفه الحظ غالباً. فيتمكن صاحب الفرن من إلقاء القبض عليه بيده الضخمة كيفما اتفق، فينزع الرغيف منه، و يوسعه ضرباً على قدميه حتى تتورما، فلا يعود قادراً على الجري لعدة أيام، برغم جوعه.
وعلى الرغم مما قد يحدث، يعاود تكرار الفعلة ذاتها، متعللاً بالنجاح والنجاة في كل مرة.
أما إذا أفلح بالهروب من صاحب الفرن، الذي لا يكف عن سبه بأقذع الشتائم، فإنه يذهب مسرعاً، منتعشاً بحرارة الرغيف، ورائحته، لأي مكان يلتقي فيه رفاقه.
حيث يأكل ببطء ملتذاً بكل ذرة من الرغيف، وهو يوزع بعض النتف الصغيرة على لداته الذين يشاركونه الجوع ذاته، ولكنهم لا يجرؤن على غير الإصغاء لحكاياته مع صاحب الفرن، والضحك قدر الإمكان، دون إثارة أدنى ضجة.
كان يخاطبهم بحماس، بعد التهام الرغيف، وهدوء الجوع لبعض الوقت:
- عندما أكبر سأعمل شرطياً..
ويردف، بحزم أكبر منه:
- سأذهب إلى صاحب الفرن.. و آمره أن يوزع الخبز مجاناً على الذين لا يملكون أي شيء.. وأن يأخذ النقود فقط من الذين يملكون المال.
ويستطرد، وهو يحدق بعيون الصغار التي قد توهجت بالأمل وهي ترنو إليه بفرح:
- عندئذٍ لن يكون ثمة فقراء.. يسرقون الخبز.
* * *
وهو يتجول بزهو ببذلة الشرطة الجديدة ذات الأزرار الذهبية البراقة.
ركض نحوه رجل بدين، يصرخ والزبد يتناثر من فمه الأدرد:
- أيها الشرطي.. أرجوك أنقذني.. اللص سرقني وفر هارباً.
ينظر الشرطي بحزم، حيث أشارت السبابة المتورمة، فيرى طيفاً يختفي في الزقاق الأكثر ظلمة في الحي العتيق، فيركض خلف الطيف الهارب، هاتفاً:
- قف..
ويؤكد الشرطي بصوت قوي:
- قف باسم القانون..
ويتصاعد صياح الشرطي:
- قف وإلا أطلقت عليك النار..
وعندما لا ينصاع الشبح اللاهث للأوامر الحازمة، يوجه الشرطي بذراع ثابتة فوهة المسدس نحوه تماماً، ويضغط على الزناد بحرص، دونما أن تهتز يده.
فيدوي الزقاق الضيق بأزيز الرصاصة التي أخرست الصوت في أنحاء الحارة لحظة السقوط.
يقترب الشرطي غير مكترث، نحو الجثة الضئيلة المتكومة على نفسها، وصدى وقع حذائه العسكري يعصف في زوايا الزقاق الصامت.
..عندئذٍ فقط تذكر الشرطي..
إن الذي أشار له هو صاحب الفرن ذاته، الذي كان يركض خلفه، عندما كان بعمر القتيل- المسجى عند قدميه- القابض بيدٍ متشنجة على رغيف أحمر، ساخن، يقطر دماً طازجاً!.