عين على
كتب التراث
المأمون ... و امراة جاءت تشكو ابنه
جلس المأمون يوما للمظالم ، فجاءته امرأة عليها هيئة السفر ، و عليها ثياب رثة ، فقال لها يحيى : تكلمي بحاجتك ، فقالت :
يا خير منتصف يهدى له الرشَـــدُ
و يا اماما بــه قد أشرق البـــــــلد
تشكو اليك ، عميد القوم ، أرملة
عُدي عليها فلم يترك لها سبَـــــدُ (1)
و ابتز مني ضياعي بعد منعتـها
ظلما و فُرِّق مني الأهل و الـولد
فأطرق المأمون ، ثم رفع رأسه اليها و هو يقول :
في دون ما قلت ، زال الصبر و الجــلدُ
عني ، و أقــرِح مني القلبُ و الكبــــــدُ
هــــــــذا أذان صلاة العصر فانصرفي
و أحضري الخصم في اليوم الذي أعد
فالمجلس السبت ، ان يقض الجلوس لنا
ننصفك منه ، و الا المجلس الأحـــــــد
فلما كان يوم الأحد ، جلس فكان أول من تقدم اليه تلك المراة ، فقال لها : أين الخصم ؟ .. فقالت :
الواقف على راسك يا أمير المؤمنين ، و أومأت الى العباس ابنه ، فقال :
يا أحمد بن أبي خالد ، خذ بيده فأجلسه معها مجلس الخصوم . فجعل كلامها يعلو كلام الناس ، فقال لها احمد بن أبي خالد :
يا أمة الله ، انك بين يدي أمير المؤمنين . و انك تكلمين الأمير ، فاخفضي من صوتك . فقال المأمون :
دعها يا أحمد ! .. فان الحق أنطقها و الباطل أخرسه . ثم امر برد ضيعها اليها ،و أمر الى العامل الذي ببلدها أن يوغر ( 2) لها ضيعتها و يحسن معاونتها ، و أمر لها بنفقة .
...
1- السبد : الشعر ، و يكنى به عن الابل ، كما يكنى بالوبر عن الغنم
2- يوغر لها ضيعتها : أي يسقط عنها خراجها
....
من كتاب " العقد الفريد " لابن عبد ربه .
بين المأمون و الرشيد
قال المأمون يوما : أتدرون ما جرى بيني و بين أمير المؤمنين هارون الرشيد ؟
كان لي اليه ذنب ، فدخلت مسلما عليه ، فقال :
أغرب يا أحمق .
فانصرفت مغضبا ، و لم ادخل اليه أياما . فكتب الي رقعة يقول :
ليت شعري وقد تمادى بك الهجـــ ... ــر ، أمنك التفريط أم كان مني
ان تكن خنتنا ، فعنك عفا اللـــــــ ... ــه و ان كنت خنتكم ، فاعف عني
فسرت اليه ، فقال :
ان كان الذنب لنا ، فقد استغفرناك ، و ان كان لك ، فقد غفرناه . فقلت له :
قلت لي : يا أحمق ، و لو قلت لي يا ارعن ، كان أسهل علي . فقال :
ما الفرق بينهما ؟ قلت له :
الرعونة تتولد عن النساء ، فتلحق الرجل من طول صحبتهن ، فاذا فارقهن ، و صاحب فحول الرجال ، زالت عنه . و أما الحمق فانه غريزة .
و أنشد بعض الحكماء :
و علاج الأبدان أيسر خطبا ... حين تعتل من علاج الععقول
..............
عن أبي عبدالله النميري ، قال :
كنت يوما مع المأمون ، بالكوفة ، فركب للصيد ، ومعه سرية من العسكر ، فبينا هو سائر ، لا حت له طريدة ، فأطلق عنان جواده ، فأشرف على نهر ماء من الفرات ، فاذا هو بجارية عربية جميلة ، و بيدها قربة قد ملأتها و حملتها على كتفها ، و صعدت من حافة النهر ، فانحل وكاؤها ، فصاحت برفيع صوتها :
يا أبتي ، أدرك فاها ، قد غلبني فوها ، لا طاقة لي بفيها . قال :
فعجب المأمون ، من فصاحتها ، و رمت الجارية القربة من يدها ، فقال لها المأمون :
يا جارية ، من أي العرب أنت ؟ قالت :
أنا من بني كلاب . قال :
و ما حملك أن تكوني من الكلاب ؟ فقالت :
و الله لست من الكلاب ، و انما أنا من قوم كرام غير لئام ، يقرون الضيف ، و يضربون بالسيف . ثم قالت :
يا فتى ، من أي الناس انت ؟ ثم قال :
أو عندك علم بالأنساب ؟ قالت :
نعم . قال لها :
انا من مضر الحمراء . قالت :
من أي مضر ؟ قال :
من أكرمها نسبا ، و أعظمها حسبا ، و خيرها أما و أبا ، و ممن نهاية مضر كلها . قالت :
أظنك من كنانة ؟
قال : أنا من كنانة . قالت :
فمن أي كنانة ؟ قال :
من أكرمها مولدا ، و أشرفها محتدا ، و أطولها في المكرمات يدا ، ممن تهابه كنانة و تخافه . قالت :
اذن أنت من قريش .
قال : أنا من قريش . قالت :
من أي قريش ؟ قال :
من أجملها ذكرا و أعظمها فخرا ، ممن تهابه قريش كلها و تخشاه . قالت :
أنت و الله من بني هاشم . قال :
أنا من بني هاشم . قالت :
من أي هاشم ؟ قال :
من أعلاها منزلة ، و أشرفها قبيلة ، ممن تهابه هاشم و تخافه .
فعند ذلك ، قبلت الأرض ، و قالت :
السلام عليك يا أمير المؤمنين .
قال : فعجب المأمون ، و طرب طربا عظيما ، و قال :
و الله لأتزوجن بهذه الجارية ، لأنها من أكبر الغنائم ، ووقف حتى تلاحقه العسكر ، و نزل هناك ، و أنفذ خلف أبيها و خطبها منه ، فزوجه بها ، و عاد بها مسرورا ، و هي والدة ولده العباس ، و الله اعلم .
...
من كتاب " المستطرف في كل فن مستظرف " للأبشيهي .
كتب التراث
المأمون ... و امراة جاءت تشكو ابنه
جلس المأمون يوما للمظالم ، فجاءته امرأة عليها هيئة السفر ، و عليها ثياب رثة ، فقال لها يحيى : تكلمي بحاجتك ، فقالت :
يا خير منتصف يهدى له الرشَـــدُ
و يا اماما بــه قد أشرق البـــــــلد
تشكو اليك ، عميد القوم ، أرملة
عُدي عليها فلم يترك لها سبَـــــدُ (1)
و ابتز مني ضياعي بعد منعتـها
ظلما و فُرِّق مني الأهل و الـولد
فأطرق المأمون ، ثم رفع رأسه اليها و هو يقول :
في دون ما قلت ، زال الصبر و الجــلدُ
عني ، و أقــرِح مني القلبُ و الكبــــــدُ
هــــــــذا أذان صلاة العصر فانصرفي
و أحضري الخصم في اليوم الذي أعد
فالمجلس السبت ، ان يقض الجلوس لنا
ننصفك منه ، و الا المجلس الأحـــــــد
فلما كان يوم الأحد ، جلس فكان أول من تقدم اليه تلك المراة ، فقال لها : أين الخصم ؟ .. فقالت :
الواقف على راسك يا أمير المؤمنين ، و أومأت الى العباس ابنه ، فقال :
يا أحمد بن أبي خالد ، خذ بيده فأجلسه معها مجلس الخصوم . فجعل كلامها يعلو كلام الناس ، فقال لها احمد بن أبي خالد :
يا أمة الله ، انك بين يدي أمير المؤمنين . و انك تكلمين الأمير ، فاخفضي من صوتك . فقال المأمون :
دعها يا أحمد ! .. فان الحق أنطقها و الباطل أخرسه . ثم امر برد ضيعها اليها ،و أمر الى العامل الذي ببلدها أن يوغر ( 2) لها ضيعتها و يحسن معاونتها ، و أمر لها بنفقة .
...
1- السبد : الشعر ، و يكنى به عن الابل ، كما يكنى بالوبر عن الغنم
2- يوغر لها ضيعتها : أي يسقط عنها خراجها
....
من كتاب " العقد الفريد " لابن عبد ربه .
بين المأمون و الرشيد
قال المأمون يوما : أتدرون ما جرى بيني و بين أمير المؤمنين هارون الرشيد ؟
كان لي اليه ذنب ، فدخلت مسلما عليه ، فقال :
أغرب يا أحمق .
فانصرفت مغضبا ، و لم ادخل اليه أياما . فكتب الي رقعة يقول :
ليت شعري وقد تمادى بك الهجـــ ... ــر ، أمنك التفريط أم كان مني
ان تكن خنتنا ، فعنك عفا اللـــــــ ... ــه و ان كنت خنتكم ، فاعف عني
فسرت اليه ، فقال :
ان كان الذنب لنا ، فقد استغفرناك ، و ان كان لك ، فقد غفرناه . فقلت له :
قلت لي : يا أحمق ، و لو قلت لي يا ارعن ، كان أسهل علي . فقال :
ما الفرق بينهما ؟ قلت له :
الرعونة تتولد عن النساء ، فتلحق الرجل من طول صحبتهن ، فاذا فارقهن ، و صاحب فحول الرجال ، زالت عنه . و أما الحمق فانه غريزة .
و أنشد بعض الحكماء :
و علاج الأبدان أيسر خطبا ... حين تعتل من علاج الععقول
..............
عن أبي عبدالله النميري ، قال :
كنت يوما مع المأمون ، بالكوفة ، فركب للصيد ، ومعه سرية من العسكر ، فبينا هو سائر ، لا حت له طريدة ، فأطلق عنان جواده ، فأشرف على نهر ماء من الفرات ، فاذا هو بجارية عربية جميلة ، و بيدها قربة قد ملأتها و حملتها على كتفها ، و صعدت من حافة النهر ، فانحل وكاؤها ، فصاحت برفيع صوتها :
يا أبتي ، أدرك فاها ، قد غلبني فوها ، لا طاقة لي بفيها . قال :
فعجب المأمون ، من فصاحتها ، و رمت الجارية القربة من يدها ، فقال لها المأمون :
يا جارية ، من أي العرب أنت ؟ قالت :
أنا من بني كلاب . قال :
و ما حملك أن تكوني من الكلاب ؟ فقالت :
و الله لست من الكلاب ، و انما أنا من قوم كرام غير لئام ، يقرون الضيف ، و يضربون بالسيف . ثم قالت :
يا فتى ، من أي الناس انت ؟ ثم قال :
أو عندك علم بالأنساب ؟ قالت :
نعم . قال لها :
انا من مضر الحمراء . قالت :
من أي مضر ؟ قال :
من أكرمها نسبا ، و أعظمها حسبا ، و خيرها أما و أبا ، و ممن نهاية مضر كلها . قالت :
أظنك من كنانة ؟
قال : أنا من كنانة . قالت :
فمن أي كنانة ؟ قال :
من أكرمها مولدا ، و أشرفها محتدا ، و أطولها في المكرمات يدا ، ممن تهابه كنانة و تخافه . قالت :
اذن أنت من قريش .
قال : أنا من قريش . قالت :
من أي قريش ؟ قال :
من أجملها ذكرا و أعظمها فخرا ، ممن تهابه قريش كلها و تخشاه . قالت :
أنت و الله من بني هاشم . قال :
أنا من بني هاشم . قالت :
من أي هاشم ؟ قال :
من أعلاها منزلة ، و أشرفها قبيلة ، ممن تهابه هاشم و تخافه .
فعند ذلك ، قبلت الأرض ، و قالت :
السلام عليك يا أمير المؤمنين .
قال : فعجب المأمون ، و طرب طربا عظيما ، و قال :
و الله لأتزوجن بهذه الجارية ، لأنها من أكبر الغنائم ، ووقف حتى تلاحقه العسكر ، و نزل هناك ، و أنفذ خلف أبيها و خطبها منه ، فزوجه بها ، و عاد بها مسرورا ، و هي والدة ولده العباس ، و الله اعلم .
...
من كتاب " المستطرف في كل فن مستظرف " للأبشيهي .