» » عرض تحليلي نقدي لقصة "الأمطار والطفولة الهاربة" القاصة سهير خالد- قراءة – علي البدر


1-العرض التحليلي النقدي:
"
يا قطرة عز عليها السقوط وما كانت لتروي ضمأ السنين..." بهذه الومضة flash pointt لابد للمتلقي أن يتساءل: يا ترى ما هي تلك القطرة التي ننتظرها بعد فترة بخل وضمور؟ وعند المتابعة يستمر العتاب بلغة شفيفة غاية في البساطة والانسيابية " وأنت تتساقط خجلاً... أراقبك من نافذة قلب حزين.. كيف تغيرت ولم تعد كما كنت وابلاً يبتلنا ويغمرنا فرحاً..." أجل هموم تملأ الصدور كبتت في اللاوعي لتسبب ضغطا نفسياً يهدر ويستنفذ طاقتنا العصبية.نحن الذين تغيرنا وليس المطر.. يا ترى.. من يعوض ذلك الإهدار؟ وأين ذلك الواقع المبهج المطمن لحاجاتنا النفسية والمادية؟ حتى المطر أصبح رمز حزن وألم " أراقبك من نافذة قلب حزين.." وهنا تأتي لحظات الماضي المرتبط بطفولتنا أو بتلك الحياة البسيطة الخالية من التأزم والشد النفسي فنسترجع شريط الذكريات معززاً بشخوص نحبها... نعشقها.. أجل الأم ذلك الحضن الدافئ وتلك اليد التي تتوغل أصابعها بين خصلات شعرنا لتمنحنا الحنان والأمل والتفاؤل. "عد بي إلى ذلك الشتاء البعيد من زمن مضى يوم كنا أطفالاً.." و عندما تلفنا الهموم مقترنة بالوحدة، ننفخ بروح من عندنا في الصخر والموج والمطر ...حيث نسقط معاناتنا لنكسب تلك الشخوص التي خلقناها، ألماً بدل فرحة غامرة.. فنعطي الحياة لمن لم يمتلكها كما نلاحظ عند محاكاة الكاتبة المطر باستعمالها أسلوب الأنسنة أو التشخيص personification ... " لتتولد لدينا صورا تناقضية contradictory images بين مطر" يتراقص خجلاً... في سنوات عجاف مدت ظلها على الآتي من العمر" وبين زخات مطر تبللنا وتجعلنا " نتراقص طربا لوقع زخاته " وهي تتساقط" أيام طفولتنا. أجل يبللنا ويزيدنا فرحا وعندها تشق حجب الصمت كركرات الأطفال ولحظات الفرح واللهو البريئة رغم خوف الأم علينا.. و "لازلت أذكر كيف كنا نركن حقائبنا وكتبنا المدرسية جانباً... نعدو ونجوب كل الطرقات الرمادية غير عابئين بتساقطه وهو يحتل كل المساحات فينا وغير مكترثين بوابل التوبيخ الذي ينتظرنا." غضب وتوبيخ يزيد الفرح ويعمقه فهو من أروع إنسانة في الوجود. أجل إنها الأم التي تغضب لأجلنا .. ولكن "آه يا أمي..من أوهمك أن المطر قد يمرضنا؟" آه يا أمي.. كم أنت رائعة وذكية فها أنا أعترف لك بعد أن "مضى شتاء وجاء شتاء وأضحت مواسم الأمطار شحيحة" بأنني " استعملت المظلة للاحتماء من التوبيخ لا من المطر.." وأخبرك يا أمي بأن كلماتك " تتناهى على وقع مسامعنا كالسوط وهي تأمرنا بحمل المظلة..". لكننا وبلحظات مجنونة " نفرد أذرعنا وسط الطرقات لندور وندور... " وعندما تهدأ القطرات مستسلمة "نجنح نحو كل الأغصان المتدلية من فوق أسوار البيوت ماسكين بأطرافها... نهزها بما استطعنا من قوة لتتساقط علينا تلك الحبات المختبئة في طي الأوراق ..."
 
ولنتساءل..كيف يمكن أن يتحول انفعال الحب..أجل تلك العاطفة التي تدخل البهجة في نفوسنا من لحظات سعيدة إلى أيام وربما سنين من الضجر والكآبة والتشاؤم تجعلنا نتمنى الرجوع لأيام الطفولة؟ " عد بي إلى ذلك الشتاء البعيد من زمن الماضي يوم كنا أطفالاً.." وها أنني كبرت " ولن يكون أحد قادراً على منعي لأغتسل مطراً وأشرع كل النوافذ لينفذ إليها المطر"
وهكذا يكون السيمياء symboll مطراً يمثل ثيمة القصة التي كتبتها القاصة سهير خالد بأسلوب سردي سلس. حوار ارتدادي مع الذات monologue يضع المتلقي في دائرة الحزن والكآبة التي أبدعت في وصفها مضطرة لخلق حوار لكسر الوحدة والرتابة والضجر فنراها تعتب على المطر الذي " يتساقط خجلاً..." أو تتحدث بصورة مباشرة مع الأم التي غادرت والى الأبد، ثم تنتقل وبانسيابية إلى سرد معتمدةً على ضمير الغائب third person"....و هددت أمي وتوعدت .." و تنتقل لوصف حالتها ثم حالة المطر في تعبيرات متداخلة رائعة رغم ابتعادها عن ميكانزم mechanism السرد القصصي " فما كنت لأريد أن أزيد من حنقها... وعاود المطر تساقطه.."
وأراني هنا معطياً بعض التبريرات للكاتبة بتمسكها بالماضي من خلال عملية نكوص  retreat وانسحاب withdrawal لفترة الطفولة الخالية من المسؤولية والمليئة بدفء حنان حضن فقدته كان أملاً لها وإشراقة حب باتت تبحث عنها في وحدتها.. وباتت تنظر إلى الواقع بسوداوية مؤلمة وحتى المطر، رمز النماء والخير، يرسخ في أعماقها انفعالات الانكماش والارتداد نحو الذات " لقد مرضنا يا أمي يوم غادرتنا مواسم المطر... وأضحت رائحة التراب المبتل مطراً بعبق الدم والبارود"
 
وربما يكون الإنسان مغترباً عن واقعه عندما يكون الإحساس بالتعلق بتراب الوطن ملوثاً برائحة الدم.. فينسى دوره الفاعل في التغيير بعد أن يفقد الثقة بنفسه ويعيش على الهامش متشبثاً بذكريات طفولية ترسخ ضجره ويأسه حيث يموت كل شيء لديه فقد " مرضنا يا أمي يوم غاب المطر وماتت الأوطان" وفي الواقع أن الأوطان لم تمت لوجود من يرسم مستقبلها وينقش الأمل على الحجر لا على رمل ينزاح لأول موجة منسابة...
 
والحقيقة تقول أننا بحاجة لإثارة الهمة وتحدي الصعاب والابتعاد عن اليأس والإحباط. وقد لاحظت الأسلوب التشاؤمي الارتدادي مستشرياً بعد موجة التغييرات السياسية في وطننا العربي، وبتنا في هجمة مبرمجة لتجريد الإنسان من انتماءه للوطن ولترابه، فبات الشاب خاصة متصوراً سعادته عندما يغادر وبأي ثمن حتى ولو يغرق في البحر هرباً من وطنه. للأسف فقد وقعنا في الفخ المرسوم لنا ويا ترى كم من الوقت نحتاج لإعادة بناء الإنسان؟ وأين تلك القدوة المؤهلة في التصدي لهذا الأمر؟ أن يموت الوطن .. مستحيل لأن الذين يموتون من أجله كثيرون. لابد من التفاؤل ولكن الغريب أن التشاؤم يسري في معظم كتابات الأدباء... لا أقول الشباب فقط وإنما أدباء نطلق عليهم أدباء كبار مرموقين...

2- القصة

 يا قطرة عز عليها السقوط وما كانت لتروي ظمأ السنين وأنت تتساقط خجلا وجلا ...أرقبك من نافذة قلب حزين .... كيف تغيرت ولم تعد كما كنت وابلا يبتلنا ويغمرنا فرحا . طلٌ واهنٌ.... شحيحٌ عاجزٌ أنت اليوم ... سنوات العجاف مدت ظلها على الآتي من العمر
عد كما كنت صبابة واروي كل السنوات العجاف ..عد بنا إلى مسالك الطفولة التي غادرتنا يوم كنا نتراقص طربا لوقع قطراتك وهي تتساقط زخات . ..عد بي إلى ذلك الشتاء البعيد من زمن مضى يوم كنا أطفالا ويوم كان وجه أمي يكفهر وهي تتطلع إلى السماء الملبدة بالغيوم ويوم كانت كلماتها تتناهى على وقع مسامعنا كالسوط وهي تأمرنا بحمل المظلة خوفا من تساقط حباتك ونحن في طريق عودتنا من المدرسة إلى البيت فنمرض
آه يا أمي ...من أوهمك وأخبرك أن المطر قد يمرضنا ..لقد كان يغمرنا فرحا وهو يبتلنا ...لازلت أذكر كيف كنا نركن حقائبنا وكتبنا المدرسية جانبا ..نعدوا ونجوب كل الطرقات الرمادية ...غير عابئين بتساقطه وهو يحتل كل المساحات فينا وغير مكترثين بوابل التوبيخ الذي ينتظرنا .
تحاصرنا قطراتك من كل الجوانب ..تنفذ من خلال كل تلك الأكوام التي نرتديها ..يصيبنا البرد ...نرتجف .. لن نستسلم أبدا للمظلة ولا لأي ركن من الشارع يقبع بعض منه هنا وهناك دون أن تطاله تلك اللآلئ البيضاء ..ونتحدى ذلك بضحكاتنا التي تملا الأرجاء ..ليرتد صداها ويغمرنا إحساسا بالدفء ..
كنا نكابر حتى في اللحظة التي كانت فيها أجسادنا الصغيرة الغضة ترتجف ربما لإحساسنا الذي كان يخبرنا أن تلك اللحظات لن تتكرر ذات يوم وأنها ستكون في يوم من الأيام مجرد ذكرى لا أكثر سيراودنا الحنين إليها يوما ما.
وفي لحظة مجنونة نفرد أذرعنا وسط الطرقات لندور وندور أيتها القطرات البلورية اليوم كل السبل متاحة اليك لتغمرينا ...وفجأة يتوقف كل شيء ...تهدأ القطرات وكأنها أوشكت على الاستسلام لعبث الطفولة فينا الذي يزداد تمردا مطالبا بمزيدا من المطر فنجنح نحو كل أغصان الشجر المتدلية من فوق أسوار البيوت ماسكين بأطرافها ..نهزها بما استطعنا من قوة لتتساقط علينا حتى تلك الحبات العالقة المختبئة في طي الأوراق
وفي اللحظة التي نستنفد فيها السبل كل السبل نعود بأدراجنا نحو البيت ..ستجن أمي لو رأتنا مبتلين ..سأفتح المظلة ولن تنهرني أمي سأخبرها أن المطر كان شديدا وعاجزا أمام مظلتي التي شرعتها مُفتحة منذ مغادرتي المدرسة وحتى وصولي إلى البيت ولكنها كانت اكبر من ان تُخدع بفكرتي الساذجة ..( أظنك انك استعملت المظلة للاحتماء من التوبيخ لا من المطر أيتها الغبية ) وهددت أمي وتوعدت والتزمت الصمت أمام سيل التوبيخ فما كنت لأريد أن أزيد من حنقها ..وعاود المطر تساقطه ..آه لو يمكنني الخروج وتحدي غضب أمي .. ولكني كنت اضعف من أتحدى السلطة الغاشمة فاتجهت نحو النافذة أرقبه وهو ينساب بقوة تٌميل به الريح ليضرب على اللوح الزجاجي وكأنه يطلب أن أشرع له كل النوافذ ..ولم أكن املك إلا البكاء وأمنية مخبئة في صدري تخبر الجميع أني ذات يوم سأكبر ولن يكون احد قادر على منعني لاغتسل مطرا واشرع كل النوافذ لينفذ إليها المطر
ومضى شتاء وجاء شتاء وأضحت مواسم المطر شحيحة .....كبرنا وتغيرنا وغادرنا نزق الطفولة ولكني بقيت رهينة نافذة الأمس التي لم تُشرع منذ ذلك الوقت وخلف مصراعها وأدت أمنيات الطفولة ..جُل ما افعله اليوم اعد قهوتي ..أرقب كيف ينساب المطر باحتضار وكل شيء في داخلي يبكي
أمي من أخبرك وأوهمك ذات يوم إن المطر يُمرض ؟؟؟؟
لقد مرضنا يا أمي يوم غادرتنا مواسم المطر ..ويوم بتنا نسترجي القطرات العالقة ان تسقط لتغسلنا وتروي مواسم قحطنا ويوم أضحت رائحة التراب المبتل مطرا بعبق الدم والبارود ....مرضنا يا أمي يوم غاب المطر وماتت الأوطان (ورحل الإنسان بصمت دون أن يترك لنا حتى فرصة للوداع لنطبع قبلة على الجبين)
المطر ما عاد ينهمر ..من ينهمر اليوم هو الحزن في داخلنا.



عن مجلة الثقافة العربية أزمان هاشم

مجلة الثقافة العربية - مجلة أدبية -شاملة - - نهتم بكافة النصوص الأدبية سواء كانت شعر أو نثر أو قصة أو مقال إلخ -- نمد إيدينا لنشر جمال اللغة العربية لغة الضاد ومساعدة المواهب الأدبية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبادة الفيشاوي
»
السابق
رسالة أقدم
«
التالي
رسالة أحدث
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد

close
Banner iklan disini