سبق صياح الديك صوت مؤذن جامع الحي الكسول بدقائق ، فتحت العجوز عينيها بتثاقل ، وحال إزاحتها الغطاء عن جسمها النحيل ، شعرت بوخز البرد اللاذع ، صاحت قبل أن تكمل البسملة نحو إبنتها النائمة بسبات مع أحلامها الدافئة :
- انهضي ، لا ريب أنكِ مع حلمك المعهود !
أسرعت العجوز نحو دورة المياه ، تهيئ نفسها للصلاة ، بينما همت سلمى مسرعة الخطى نحو باحة الدار الصغيرة ، لفتح أقفال السلسلة المحكمة عن إحدى إطارات عربة الدفع الخشبية من جهة وبجذع متين لشجرة صفصاف يابسة من جهة أخرى ، ما لبثت أن اتجهت نحو قدر الباقلاء الذي مازال يغلي تحت مشعل الطباخ النفطي منذ منتصف الليل على نار هادئة ، وبحركة رشيقة ، قلبت غطاء القدر الذي تصاعدت منه طبقة كثيفة ساخنة من البخار ، تكثف على وجهها الطري ، لعقت بلسانها ما سال فوق شفّتها العليا ، أطفأت النار بيد ، وبأخرى غلقت القدر بإحكام ، استكانت قليلاً قرب المغسلة تشطف وجهها حتى جاءت العجوز مسرعة تحمل بيديها كيس كبير من الخبز وكارتون من بيض المائدة أولجتهما داخل العربة بحذر ، وبعد تحية الصباح التي ألقتها سلمى بعجل على أمها ، انسلت مهرولة نحو الغرفة لتكمل ما تبقى من هندامها..
مازالت النجوم تتلألأ ، وصفير ريح البرد القارس وحارس المحلة ، كل تلك مواقيت توحي على إنهما في وقتهما المعتاد لبداية عمل يوم ناجح ، تتسارع خطواتهما شيئا فشيئا عند منحدر الشارع الإسفلتي الطويل مع ازدياد دوران عجلات عربة الدفع ، يولد من خلال إنارة الشارع ظلهما الذي يزداد طولاً كلما ابتعدا عن ضوء المصابيح ، ثم يتلاشى وتعاد الكرّة عند كل عمود منير ، اعتادت سلمى على دفع العربة ، مركزة ببصرها نحو نجمة متلألئة تكون قبالتها في ذلك الوقت ، تختفي عن نظرها مع انحدار الشارع ، أسمتها نجمة الأمل ، تبتسم لها تارة ، وتارة أخرى تحاكيها خلسة عن أحلامها التائهة بعيدا عن مسمع أمها اللاهثة خلفها ، تتمنى لو تبقى تلك النجمة معها دوماً رغم منحدر الطريق الطويل ، تقف العجوز أحياناً للاستراحة بعد أن تلفت انتباه سلمى بالصياح ، ما تلبث أن تلقي على مسمعها بعض الكلمات كل يوم :
- بنيتي ؛ لا يجدر بك أن تضعي نصب عينيك ما نحتته السماء ، وأنت في طريقك نحو المنحدر ، قد تأخذك العربة بسرعتها نحو الهاوية ، حيث الحفر والمياه الآسنة ، انتبهي جيداً ؛ أرجوك ، لا تزيدي من جمر فجيعتي لهباً !
تتزايد تنهداتهما كلما اقتربا من مجمع العمال القريب من كلية الطب الذي يبعد عن الدار بمسافة ليست بالقصيرة ، حيث يقبعان مع عربتهما في محل يتوسط المجمع لبيع الفطور الرخيص إلى العمال والموظفين والسابلة المارين قرب المكان حتى الساعات الأولى من الصباح ،و الذين يجتمعون مباشرة حول العربة حال وصولهما ، البعض مَن حضر ليأكل وآخرون لغرض اختلاس النظر نحو شابة جميلة مثل سلمى بوجوههم المتغضنة ونظراتهم المتقطعة من تحت الأجفان المتصلبة كدرع سلحفاة ، حتى تعج أصوات ارتشافهم حساء الفول الساخن كقرقرة النارجيلة بشكل ملفت ومضحك ، وعلى الرغم من أن العربة تختنق بالزبائن ، ويتعرض جسدها الجميل إلى نظرات من شتى العيون ، إلّا إنها كانت تصلح جلبابها وحجاب رأسها من حين إلى آخر ، و بالوقت نفسه كانت تنعم بهدوء الأعصاب والكياسة ، غير متأثرة بمن حولها .
كما أن الأم العجوز تمنح لأبنتها بعض الطمأنينة المشوبة بالحذر الدائم ، خصوصاً وأن الكثير من الرجال جاءوا لطلب يد ابنتها ، ومنهم العريف رحيم رجل الأمن ذو الخمسين عاما الذي يفطر كل يوم بالمجان عنوة على يديهما بعد أن يسحب بقايا لكرسي حديدي قصير ، مطرقاً برأسه الضخم وهو يلتهم ماعون ثريد الباقلاء ، بدا وجهه المنفوخ يصّبب عرقاً رغم برودة الجو ، وعيناه الصغيرتان تبعثان نظراتهما خلسة مابين الماعون الغاطس في فمه والقبعة الصوفية المتدلية فوق حاجبيه نحو جسد سلمى ، بينما تفترش العجوز خرقة من السجاد المتهرئ ويداها تقعقعان عند شطفها للمواعين داخل الطست الكبير ، مضى وقت غير قصير حتى سمعته يسعل مرتين ، ماسحاً براحة يده اليسرى شاربيه المتدليين حتى نهاية أسيل خديه ، ماضغاً أصابع يده اليمنى وراحتها ، وكانت الظلمة قد أحمرّت وزغردة العصافير قد سُمعت من على أشجار الشارع المؤدي إلى كلية الطب وبصوته المتحشرج :
- سيحاكم ابنك حاتم غداً ، حيث ينتظرون الشهود ومنهم أنا ، ولا أخفي عليك مصيره الإعدام ، مازلت على عهدي ، يمكنني تغيير كل شيء شريطة ما أريد ، ولا أرغب بغير الحلال ، مشيرا بحنكهِ الطويل نحو سلمى التي لم تسمع ما يدور بينهما من حديث ...
صمتت العجوز برهة ، تقربت نحوه ، تسحل الأرض بإليتها و همست ضارعة :
- وماذا فعل حتى يعدموه ؟ تظاهر مع الناس بسلمية ، مطالباً بالحرية لوطنه ، لم يشتم الرئيس أو يحمل سلاحاً ، تعرفه جيداً ، انه طالب في كلية الحقوق و يعرف القانون جيداً ..
- أنا قلت ما عندي ، الأمر عائد لكما ..
- يا هذا ، إنها بمقام ابنتك ، أتعلم ؛ دوما ما أوقظها من حلمها المعهود كطبيبة ، حرمتموها من ذلك الحق بسبب اعتقال أخيها ، لم يبق لي سواها بعد موت زوجي غصة على ولده ، إنها تموت كل صباح عندما ترى زميلاتها الذاهبات إلى الكلية ، أرجوك كن إنساناً ولو مرة ، منذ سنتين وهي على تلك الحال ....أرجوك دعها وشأنها !
لم يعقب عليها كثيراً ، متمتما ببعض كلمات التهديد والوعيد وعلى مسمع سلمى هذه المرة ،التي لم تعقب هي الأخرى ،ناظرة نحو أمها العجوز التي باتت شاردة تفكر بما قاله رحيم ، وبعد أن انتبهت لنظرات ابنتها ، تظاهرت بانتشال ما تبقى من المواعين والملاعق وفتافيت الخبز وأوراق البصل الأخضر ، حينما أقفر المكان إلّا من النفايات والأقذار وأعقاب السكائر المنتشرة في مجمع العمال ، حيث اتجه الجميع إلى محلات أعمالهم اليومية ....
شارفت الساعة على السابعة صباحا ، تحاول سلمى دوماً الانسحاب من المكان على عجل رغم عدم قدرة أمها العجوز للحاق بها ، خشية رؤيتها ، خاصة من زميلاتها اللاتي يعرفنّها جيداً أيام الإعدادية ، كما أنها دوما ما تحيط وجهها الجميل بخمار أسود ، لئلا يتعرف عليها أحد ، وفي هذا الوقت بالذات وكل يوم ، تنوح كالثكلى ،تتمنى لو كانت تمشي بالاتجاه المعاكس نحو الكلية ، حاملة كتبها الجامعية بيد ، وبيد أخرى تتدلى منها صدرية بيضاء موشحه بالأفعى الملتوية على الإبريق .. كانت تهمس بذاتها كل يوم :
• يا لتلك الأفعى ، أحياناً السم دواء لداء لا ينفع معه مشرط ، نعم تلك الحياة ، محكومة بإبريق مُر يجب أن نتجرعه لنشفي عللنا ، لكن ،بم نبدأ ؟ بعقولنا المقفولة أو أرواحنا الشريرة ، خنوعنا المخزي ، و ، و ........ !
ومن دون سابق إنذار ، رأت من بعيد ثلة كبيرة من الناس ، اغلبهم من الشباب وطلاب الكليات بزيهم الموحد ، كانوا يهتفون ، يصرخون غضباً ، لم تستطع تمييز شعاراتهم بوضوح ، حاولت التملص مع عربتها عن طريقهم ، الزحمة حالت دون ذلك ، لا معبر و لا مفر إلّا من خلالهم ، لكنها فوجئت كثيراً عندما رأت بوضوح نجمتها الجميلة رغم النور الذي خلفته أشعة الشمس ، و عند بداية المنحدر ؛ توقفت ، اتجهت أنظارها نحو أمها العجوز التي باتت بعيدة عنها ، شاردة الذهن ، متعبة ، تفترش الرصيف ، تستغفر الله في كل لحظة ، انغمست سلمى بين الجمهور مجبرة ، لاح على نظرها بعض من زميلاتها اللاتي درسن معها أيام الإعدادية ، أصلحت نقابها جيداً ، سمعت بوضوح هتافاتهم هذه المرة ، مطالبين بإسقاط الرئيس علناً ، متجهين نحو ساحة العمال ، ظلت متسمرة بعض الوقت ، حال الزحام عن رؤية أمها تماماً ، بدت على عينيها الواسعتين شرود عن العالم ، متطلعة إلى الأفق البعيد نحو نجمة الأمل ، ابتسمت لها ، ما لبثت أن نظرت نحو المنحدر الذي سيعيق رؤية نجمتها الجميلة حال الدخول فيه ، وكأنها اتخذت قراراً ، حينما همت بتسريح عربتها نحو المنحدر، خلعت خمارها ، هرولت خلفهم، تذكرت همستها اليومية ، كانت بغاية السعادة ، هتفت معهم بقوة :
- يسقط ... يسقط الرئيس ..
لكن فرحتها لم تدم كثيراً ، عندما فوجئت برؤية رحيم محمولاً على الأكتاف يهتف بإسقاط الرئيس ...