______________________
قصة بارعة، تضمر ولا تصرح، لكن براعة البناء والسرد تجعلان الحقيقة المضمرة ساطعة كشمس يوليو. يؤكد النص حقيقة أن مايطرح إضمارا وتلميحا يكون أشد وقعا، وأبلغ تأثيرا من التقرير الذي يسوق الحقيقة العارية بلا مواربة.
تخلط صديقتي نهلاء الواقع بالوهم بأسلوب يجعل القارىء مهموما خلال القراءة بتأمل كل مفصل من السرد لتصنيفه طبقا لواقع الحال، وليفصل بين عالمين. يقع أحدهما ضمن إطار الواقع المعاش. ويقع الآخر داخل ذهن الراوي. ليصبح القارىء بين خيارين للتلقي، إما أن يرى الراوي باعتباره شخصا مريضا. أو يحكم بفساد الواقع، واختلاله.
وعليه أن يفند نوعين من المخاتلة، فالبساطيل المطبوعة على الأوراق والثمرات هي يقينا مجاز، لكن مواكب الدبابات لا تحمل نفس اليقين، ولا الخبز الذي توزعه أمل، ولا عاهات بائع الخضار. جميعها تتأرجح بين الحقيقة، وبين الخيال. تحقق تلك الأرجحة وظيفتين في القصة. أولاهما الإسقاط على حال النخب في المجتمعات السلطوية التي تختلط فيها الحقائق بأكاذيب الدعاية الموجهة. أما الثانية فهي منح القصة مناخا غرائبيا يحفز القارىء ويقربه من إدراك فكرة النص التي تصنع إسقطا بارعا على العلاقة بين السلطة والمواطن في الديكتاتوريات البطريركية. وهو ماسنبينه باستعراض الدور الذي يلعبه الأب في القصة.
والقارىء يلتقي بتلك الشخصية في السطر الأول وهو يهتف بانتهاء الحرب، ( ردد هذا سبعين مرة )، هذا مايقوله الإبن راوي الأحداث، ولا يفوت القارىء نبرة السخرية، والرفض التي يبديها الابن تجاه بشارة الأب.
والعمود الفقري للقصة يتبنى تطور العلاقة بين الشخصيتين إزاء تلك البشارة.
- " نكزني أبي بعكازه .. ".
لم يقل الراوي " طلب مني أبي "، بل نرى الأب يمارس العنف السلطوي " نكزني "، لكن دلالات الألفاظ تفضح موقف الابن الذي رضخ للعنف ملبيا الأمر انصياعا للسلطة الأبوية، إذ استخدم لفظ ( عكازه) بدلا من عصاه. والعكاز وإن كان سلاحا للردع، فهو آية للوهن والعجز. وهذا يعكس الصورة العقلية للأب في ذهن الراوي، إذ تختلط سلطة ااردع بالوهن والخور.
ثم تأتي فقرة المخاتلة، حيث يعود الراوي من رحلته إلى السوق خالي الوفاض، ويتحدث عن آثار أقدامهم، ووجوههم المطبوعة على الخضار، والبائع الذي يدعي الصمم والعمي. فيكذبه الأب :
- " قهقه أبي بصوت مقزز. ".
- "وبخني أبي، وهزأ بي ...".
لكن قوة الحقيقة الساطعة التي لمسها الراوي تدفعه إلى التمسك بموقفه إزاء سخرية الأب وازدرائه. والإشارات التي أزجتها نهلاء تجعل يقين الراوي بزيف البشارة مقنعا. فالدبابات تدك الأرض ( مثيرة الأوساخ والأتربة ) . وأمل تتلقي مقابل الخبز الساخن النقود و ( القبل ) .
اما المصير الذي يلقاه الراوي فهو نفس مصير المعارضة، فقد تعرض لتقييد حريته..( قيدوني ). وللإيذاء البدني بحجة استخراج الجن من جسده.
ثم تأتي الخاتمة المعبرة تتوج التجربة القصصية بفضح سعادة الأب وابتهاجه ببسط هيمنته وسيطرته على الابن:
- " ... هذا ماردده أبي بابتسامة عريضة، وبفرح .... ".
فاندماج الابن في الكذبة السائدة، وانخراطه في التعامل مع الوضع الراهن بما يتسق مع المجموع بغض النظر عن مصداقيته جلب الاستقرار الذي يبتغيه الأب.
نص جميل، يتمتع بحبكة محكمة، وبمستويات تلقي متعددة، يستطيع القارىء العجول أن يستمتع بالمستوى السطحي للحكاية ، بينما يمكن للقارىء المتأمل أن يلتقط الإسقاط البارع.
-------------------
نص القصة :
"انتهت الحرب"
ردّدَ أبي هذا سبعين مرةً وأمي تزغرد بصوتٍ سمعه سابع جار.
_اسكتي يامرأة.. عيب..جيراننا مهمومون بشهدائهم.
سكتت أمي. وراح أبي يسمع الأخبار.
لا أدري لمَ لمْ أفرح أنا، بل لمَ لمْ أصدق ولم أقتنع...
أية حرب هذه! وهل فعلاً كنّا نخوض حرباً؟
نكزني أبي بعكازه: اذهب للسوق وأحضر ماطلبته منك.
كل الخضار تحملُ بصمتهم، نعم. بساطيلهم تتجلى لي أمام ناظري فوق كل ورقةٍ وحبةِ ثمرة..
سألتُ البائع باندهاش: هل ترى بصمة وجوههم على خضارك؟ ورسمة البسطال والبذلة هنا؟ أشم رائحة جيفةٍ أنا.
قهقه بصوتٍ مقزز: ياهذا أنا أعمى ولدي تحسس في أنفي. ثم عطس.. وعطس..
تركته وهو يعطسُ ويعطس.
وبخني أبي وهزأ بي ونعتني بالجبان المستهتر بعد أن رجعتُ خالي اليدين؛ ذهبت أمي وجاءتنا بالكثير الكثير وهي تؤكد لي أن البائع ليس أعمى بل هو معافىً وكله حيوية ونشاط وأني أتوهم هذا كله. صرتُ أشكُ في ذاتي.
دباباتهم تسير والناس تصفق... يضربون الأرض ضرباً فيثيرون التراب والأوساخ. ولكن أبي وأمي يؤكدون لي أنهم لم يروا هذا وأني أتوهمه كله وأن الهواء صافٍ نقيّ طيب.
بعيني رأيت أمل تهديهم الخبز الساخن والسمن والابتسامات وهم يناولونها النقود والكثير من القبل.
أمل ترفض اتهامي بالخيانة وتصرّ على أنها لم تبرح بيتهم منذ أن استشهد أخوها.
أحضروا لي الشيخ بعد إصرار أمي بأني لن أتعافى إلا إذا خرج الجنيّ مني.
قيدوني لأني أرفض عصى الشيخ القاسية، فغبتُ في عالمٍ آخر.
صباحاً كنت أبيع لهم خمراً بسعرٍ عالٍ، وأم أمل تخبز من الصباح حتى المساء.
الخضرچي نظره ستة على ستة عندما لاحق طفلاً سرق منه ربع دينار وهو لا يعطس.
خضاره طازجة وماشاء الله، أحضرت الكثير التي رميتها في حضن أمي وهي فرحةً: صلاوات على محمد.. صلاوات...
"هذا الشيخ يستاهل عزومة كبيرة وليست خسارة فيه"... هذا ماردده أبي بابتسامةٍ عريضة وبفرحٍ وهو يحضنني.