» » "التطور اللغوي واحتياطات السلامة اللغوية عند الكتابة الصحفية". بقلم- الدكتور إبراهيم طلحة




تراوح اللغة الأدبية محلها/محالّها/محلاتها بين الفصيح والأفصح، ويأخذ التطور اللغوي أدواره بين الجديد والأجدّ، وتتطرق التغييرات الحداثية إلى الصيغ الصحفية كما تطرقت إلى حياتنا اليومية بتقاليبها العصرية..
التطور الإعلامي الأسلوبي في لغة الكتابة الصحفية الحديثة يقودنا إلى مقايسات منهجية في نطاقات موضوعية لدى الحديث عن مقاربات ما بين الظاهرة الصحفية والظاهرة الأدبية؛ حيث إنّ الأخيرة تتطلب مستوًى صوابيًّا إبداعيًّا خاصًّا يحسُن توخّيه عند الكتابة..
وإذا كان المستوى الصوابي (الخاصّ) موضع اتفاقٍ تام بين العلماء والأدباء سابقين ولاحقين، فإنّه لا اعتبار لتجاوزات بعض الكُتّاب قواعد ما يمكن أن نطلق عليه "الفقه اللغويّ"، ولا وجه للمخالفة غير المشروعة لقوانين الصرف والنحو والدلالة..
صحيح أنَّ التطور اللغوي جزءٌ لا يتجزأ من شبكة التطور الحضاري في مجالات الحياة المختلفة، ولكنه - في الوقت نفسه - تطور استثنائي ينبغي أن يقوم على دعامتين: أولاهما المحافظة على سلامة اللغة في تشكيلها العام، والثانية المحافظة على الخصائص الفعلية الأساسية المكونة للمخيلة الإبداعية..
بعض الأعمال المنضوية في إطار الصحافة الثقافية العربية جانبت الصواب أكثر ما يكون، يوم أن استبعدت أحكام الفصاحة والبيان، وأخلدت إلى المقولات الركيكة والآراء الضعيفة، معوّلةً على جمهورٍ بئيسٍ شاردٍ عن النَّص، ما يؤدّي بهذه الأعمال إلى التآكل، وتناسي الصّفوة لصفاتها..
توجد أساليب مقبولة وصيغ متعددة لتحويل الكلام "العادي" إلى كلامٍ "أدبي" ليس من بينها إطلاقًا كسر القاعدة النحوية أو العروضية أو حتى الدلالية دون مبرر؛ لأنّ الأخذ بأدوات الكتابة الحداثية لا يعني بحالٍ من الأحوال عدم الأخذ باحتياطات السلامة اللغوية..
اللغة تتبدل نعم، وتتغير نعم، وتتحول بتحوّل الظروف الزمانية والمكانية، ولكنها - خلال ذلك كله - تحدد ملامحها تحديدًا دقيقًا يعوز إليه ربما ضربٌ آخر من ضروب الأصول الأنموذجية الموضوعية، على شاكلةٍ قد يجوز التبويب وفقها..
يقال: إنَّ اللغة كائنٌ حيّ قابل للتطور، وهي كذلك بالفعل، ولكن أيّ تطور يعنون؟!.. التطور الذي يدور حوله النقاش هو التطور الذي بمعنى التغير، أي انحراف الألفاظ - بعض الألفاظ - عن دلالاتها الأصلية إلى دلالاتٍ جديدة.. ولم يتفقوا على تطورٍ من قبيل الخروج عن "الأصيل"، وإن خرجوا عن الأصل..
ويبرز هنا خلاف حاد بين "الخاصة" مردّه إلى استعمالات رائجة بين "العامة"، وكثيرًا ما يسقط بعض "الخواص" من النخبويين في أشراك "العامية" ويلقون بأيديهم إلى تهلكة الكتابة بالنيابة..
يحتاج نفرٌ من الكُتّاب إلى وضع خيارات الاستعمال اللغوي أمامهم وضعًا غير مفتوح؛ لأنَّ تطبيقاتهم تأتي ارتجالية بعض الأوقات، ما يعيد إلى الأذهان الخوف والخشية الشديدين من تفشّي "اللحن"، واستشراء ما يمكن أن نسميه "الخطأ" الفادح في مساقات الكتابة..
يفرض المجتمع على أفراده أنماطًا سلوكيّةً معينة، غير أنّ اللُّغة هي التي تفرض سلوكيّاتها بل وتفرض نفسها على الأفراد والمجتمعات، ولا تقبل من الأفراد أو المجتمعات فرض الأنماط "الخاطئة" عليها بالرغم من كونها - أي اللغة - واحدةً من التقاليد الاجتماعية؛ فهي أوَّلاً، ومتكلِّمُوها ثانيًا..
ومنذُ الأزل البعيد والخطأ في اللُّغة المستعملة أدبيًّا أمر معيب في نظر العامة والخاصة على حدٍّ سواء؛ لأن ما يقوله "الناس" شيء، وما يقوله "الأدباء والكُتّاب" شيء، فكان أن بُذِلَت جهودٌ مضنية للحفاظ على سلامة اللُّغة، على الأقلّ لغة الإعلام في مستواها الكتابيّ، من أيام ابن السكّيت وابن الجوزي، إلى أيام كمال بشر وعبد الصبور شاهين..
ووُجِدَت جمهرةٌ من كتب التصحيح اللغوي قديمًا وحديثًا، غرضها معالجة الصيغ الأسلوبية الخاطئة، أكثر من مجرد معالجة ما يعدّ خطأ استعمال كلمةٍ معيّنة.. أمّا حديثًا فالأمر بيّنٌ إلى حدّ ما، وأمّا قديمًا فإنَّ ما يمكن الاعتداد به معقودٌ إلى ملاحظاتٍ طريفة لشخصيّات علمية عربية ظريفة الفكر حصيفة النَّقد، كابن السِّكِّيت وابن الجوزي المشار إليهما آنِفًا، في كتابيهما (إصلاح المنطق)، و(تقويم اللسان)، وكالحريري في كتابه (درة الغواص في أوهام الخواص)، وكابن مكي الصقلي في كتابه الموسوم بِ(تثقيف اللسان وتنقيح الجنان)، الذي أراد أن يشير فيه - آنذاك - إلى أخطاء أهل صقلية يوم أن كانت عربية.. فماذا لو شاهد وسمع أخطاء أبناء العربية اليوم؟!!
هذه المعاني الهادفة إلى إحلال الصواب - ولو في أدنى درجاته - محل الاستعمال الخاطئ، ربما ستسهم في تحويل بعض الكتابات الصحفية الهزيلة من ضيق الصدور ومراتع السطور إلى آفاق الحضور ومرابع السرور، لترتقي العقول وتبتهج القلوب..
وسيستمر التطور اللُّغوي - عمومًا - ساري المفعول، شريطة أن يحلو للطالب والمطلوب رصد دقائق (الجمانة في إزالة الرطانة)، ويجري - بشكلٍ دائم - (التنبيه على غلط الجاهل والنبيه)!!

عن مجلة الثقافة العربية أزمان هاشم

مجلة الثقافة العربية - مجلة أدبية -شاملة - - نهتم بكافة النصوص الأدبية سواء كانت شعر أو نثر أو قصة أو مقال إلخ -- نمد إيدينا لنشر جمال اللغة العربية لغة الضاد ومساعدة المواهب الأدبية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبادة الفيشاوي
»
السابق
رسالة أقدم
«
التالي
رسالة أحدث
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد

close
Banner iklan disini