سوف أطلب منها أن تضع لي زينة ناعمة.. وأن تكحل عينيّ بكحل عربي، وتضع فوق جفنيّ ظلاً خفيفاً بلون القهوة..أريد قليلا من أحمر الشفاه العنبيّ الخافت، أو التوتي الدافيء، حالمة أنا هذه الليلة والسماء تمطر في الخارج.. تمطر بغنج وتنقر على نافذة الغرفة التي هيأتها المرأة الثلاثينية لتصبح صالون تجميل صغير توزع فيه معداتها وتغطي جدرانه بالمرايا وصور نساء جميلات..
تأملتني كأنها تضع خارطة طريق لوجهي وكيف سيبدو عليه حين أخرج من عندها إلى حفل زفاف صديقتي.. ملتُ بوجهي أمامها لتراني بشكل أفضل وتتأمل جيداً عينيّ وحاجبيّ ووجنتيّ وذقني، أريد أن أبين لها بأنني جميلة.. حتى تلك التجاعيد الصغيرة التي فاجأتني منذ أن تجاوزت سن الأربعين لم تكن إلا أوسمة نضج رفيعة تضيف إلى جمالي الهيبة والوقار.
تناولتْ وجهي بيديها وهي تضبط ارتفاع الكرسي، أمرتني بأن أغلق عينيّ ووضعت شريطاً طبياً لاصقاً على زاويتي الجفنين فاستحال فتحهما.. لم أعد أرى شيئاً مما يدور حولي. انتابني شعور بالهلع، إنها المرة الأولى التي أجلس في مكان لا أرى فيه شيئاً!، تعجبت من نفسي ومن تصاريف القدر التي أتت على سابق عهدي، كيف يفرض هاجس الجمال لدى امرأة- تعودت أن تفتح لها عيونا إضافية لترى الحياة بشكل أفضل- أن تغمض عينيها وتسلم قيادها للوهم كآخر حيلة تدفع بها شبح الشيخوخة البغيض. كانت المرة الأولى التي أشعر فيها برثاء حقيقي لشباب غابر، ابتلعت غصة مريرة زادت من ترهل قسماتي، أظنها أشفقت على حالي، فأرادت أن تواسيني بحديثها، سألتني ماذا أعمل؟. لا أريد أن أقول لها أنا صحفية، الصحافة مصدر إزعاج لذوي المهن الحرة، ولا أريد أن أقول أنني روائية فالكتابة (وجع رأس)، قلت لها أنا معلمة نعم هكذا أفضل. المجتمع يطمئن إلى المعلمات كما أن أحداً لا يطمع في دخلهن المتواضع، ولا شك أنها هي الأخرى معلمة وقد اتجهت لمهنة التجميل لتساعد زوجها وأطفالها الثلاثة الذين حدثتني عنهم وهي تعبث بخصلات شعري. وأنا أتشمم رائحة احتراقه تحت حرارة السشوار.
- سيدتي .. شعري أحتاجه في مرات قادمة، وأظنه يحترق الآن.
- لا تخافي.
سكبت شيئا بارداً على وجهي ثم دعكته بشيء يشبه ملمس (قعر كأس)، ثم مررت فرشاتها على حاجبي عدة مرات ذهابا وإيابا.
- مهلا، لا أريد حواجب معقوفة إلى الأعلى، أريد حواجب طبيعية لا ترسم أي إشارة تعجب أو استفهام أو ذهول.
- قلت لك لا تخافي.
- لا تكثري المساحيق رجاءً، أريد ألوانا هادئة وخفيفة.
قهقهت وهي تقول:
- ما جدوى صالون التجميل إذاً؟ عليك عمل ذلك في بيتك وتوفير نقودك.
بدا كلامها منطقياً، تابعتْ دون أن تنتظر ردي:
- الآن سأضع لك الرموش.
- رموش!!؟؟ قد لا تكون ملائمة لي.
- تخيلي كيف ستجعلك الرموش ذات نظرة عميقة.
- أوه نعم، نظرة عميقة، لكم أحتاج إلى ذلك.
أظنها كانت تبتسم، أو ربما تخرج لي لسانها، فأنا لا أرى ما يحدث حولي.
- حسنا، لو ممكن أن تضعي لي رموشاً صغيرة، لا أريد الرمش العريض الذي يشبه مكنسة الغبار، أريد تلك الشعيرات التي تلحق بالرمش، شعرة بشعرة.
- لا.. تلك حرام!
- هل هناك رموش حرام ورموش حلال؟
- طبعا، الرمش الكامل الملصق فوق الجفن حلال، أما وصل الشعرات برمشك الأصلي حرام، لعن الله الواصلة والمستوصلة.
شعرت بضغط أصابعها على جفني العلوي وهي تلصق الرمش الحلال، ثم عادت حركة فرشاتها في رحلات الذهاب والإياب، ونثرت أنواعاً من المساحيق ثانيةً.
- الآن سأضع لك الكنتور
- لا أرجوك، لا أحب المبالغة في التبرج .
قالت بما يشبه ضحكة لئيمة:
- سأدلل وجهك بغمازتين على الخدين و(نقرة زين) في الذقن.
شعرت بوجهي ثقيلا تحت طبقات الكريم والبودرة وأحمر الخدود وخطوط التحديد وبقع الغمازات ونقرة الزين!! وحين اقتربت لتضع أحمر الشفاه استعرضت أسماء ممثلات لأتخيّر من بينهن شكل شفاهي.
- لا لا ا ا ا ا ا ا .
صرخت صرخة أظنها مرعبة فقد شعرت بقفزتها الهاربة بعيداً عني وهي تتمتم بصوت يرتعش:
- اسمالله.. ما بك؟
- ممثلات لا.... مغنيات لا... مذيعات لا.. أريد وجهي كما هو، لست ذاهبة إلى حفلة تنكرية.
لا استطيع أن أراها ولكنني أشعر بأنها تمطمط شفتيها بحركة ممتعضة غاضبة أو ساخرة، وحين أصبح وجهي في وزن بطيخة صيفية من الحجم الكبير طلبت مني الجلوس لإزالة الشريط اللاصق وفتح العينين.
- أخيرا
- هيا أنظرى إلى وجهك.
- أين وجهي؟
- هنا تحركي باتجاه المرآة.
- أين المرآة؟
- أمامك، تحركي إلى الأمام.
- لا أرى شيئاً، هنالك صرصور كبير أمام فتحة عيني؟
- هذه الرموش
- أوه من فضلك سيدتي أعطني مشابك الغسيل لأرفع رموشي إلى أعلى.
- جعلتك مثل سلاف فواخرجي!. قالت ذلك بحدة ونفاذ صبر.
لم أرَ سلافا تلك، لكنني رأيت طبقات من اللون الأخضر والأسود والفضي كما شاهدت اللون الوردي والتركواز والأحمر والبني والترابي. وتحت ركام تلك الطبقات كانت إمرأة أخرى تتكلم بصوتي وتفكر بعقلي ولكنها ليست أنا، يا إلهي كيف سأذهب لزفاف صديقتي، وماذا سأقول لهم عن هذه المرأة الملطخة بالألوان والمساحيق والغمازات الاصطناعية والرموش الحلال والشعر المنبعثة منه رائحة الاحتراق، كنت أبحث في حقيبتي، بعد أن ناولتها المئة دينار، عن علبة المناديل المبللة لأزيل كل هذا الطلاء وأتحرر من هذا القناع الزائف، لكنني تراجعت تأدباً، ومثل سجين لحظة الإفراج قفزت نحو الشارع حيث السماء تمطر بغزارة.
سالت سواقي المطر فوق وجهي وغسلت خريطة الألوان الكثيفة وكان شلال صغير من الماء يسيل من جبهتي متسربلا نحو محجر العينين، شعرت بشيء يسقط على خدي حين مسحته كان رمشاً أسودا كثيفاً من تلك الرموش الحلال التي كانت تحجب الحقيقة عن عيني.