» » فلسطينُ في قلبِ القصيد...!/بقلم الشاعر / بقلم: مروان مُحمَّد الخطيب


كانتْ ومازالتْ فلسطينُ – الأرض والقضيَّة -، تُشكِّلُ مَعْلَماً بارزَ الحُضورِ والتَّجلِّي في صفحاتِ الشِّعرِ العربيِّ، قديمِهِ ومُعاصِرِه. بل قد يتجاوزُ حُضورُها دواوينَ شِعرنا، إلى دواوين أُخرى لشُعراءٍ عالميين. فمن بوزباير إلى جنشي، مروراً بِجان جينيه ومستر نايت وروبرت غرين، وصولاً إلى لالون أمين، وسواهم من شُعراءِ العالم؛ نرى فلسطينَ حاضرةً بقوِّةٍ، في نبضِ القصيدِ، وفي عرينِ الكلمةِ النَّابضةِ بأريجِ الإنسانيَّةِ، وبنشيدِ العدالةِ والحق. والمُتتبِّعُ لهذا الشَّأنِ الأدبيِّ، يرصدُ معالمَ حُضورهِ منذُ ما قبل العقدين الأَوَّلَيْن من القرنِ العشرين، ولاسيَّما مع وقوعِ فلسطينَ تحتَ نيرِ الاستعمار الإنكليزيِّ، وما رافقَ ذلكَ من أحداثٍ ووقائعَ سياسيَّةٍ، كوعد وزير خارجيَّةِ بريطانيا آرثر جيمس بلفور في الثاني من شهر تشرين الثاني لعام 1917م بإقامةِ وطنٍ قوميٍّ لليهود في فلسطين، وكقرارِ تقسيمها الصَّادرِ عن الجمعيَّةِ العامَّة التَّابعةِ لهيئةِ الأمم المُتَّحدةِ  تحتَ رقم 181 في التَّاسع والعشرين من تشرين الثاني  لعام 1947م، وصولاً إلى مجملِ ما عصفَ في هذه البقعةِ المُقدَّسةِ من عملياتِ قضمٍ وهدمٍ، ومن تدميرٍ وتقتيلٍ، نالَ منها الحجرَ والشَّجرَ والإنسان!.


وأمامَ الكمِّ الكبيرِ من الأشعارِ التي قيلتْ ونُزِفَتْ في فلسطينَ وقضيَّتِها، سنحاولُ الوقوفَ على شواهدَ يزيدُ عمرُها على الثمانين عاماً، وقد نزفَها الشَّاعرُ إليا أبو ماضي في قصيدتِهِ الشَّهيرة(فلسطينُ)، وهي تُصوِّرُ لواعجَ نفسِهِ، وأنَّاتِ قلبِهِ، ورؤاهُ السِّياسيَّةَ العميقةَ حيالَ هذه القضيَّةِ السَّامية. يقولُ في تلكَ القصيدة:


"ديارُ السَّلامِ وأرضُ الهَنا   يشقُّ على الكُلِّ أنْ تحزنا


فَخَطبُ فلسطينَ خطبُ العُلى   وما كانَ رزءُ العُلى هَيِّنا


...وكيفَ يزورُ الكرى أعيناً   ترى حولَها للرَّدى أعيُنَا؟


وكيفَ تطيبُ الحياةُ لقومٍ   تُسدُّ عليهم دروبُ المُنى؟".


إنَّها صرخةٌ واعيةٌ من قلبٍ مُفعمٍ بالشِّعرِ المُلتزمِ قضايا أهليهِ ومواطنيه. وعلى الرُّغمِ من الغُربةِ والمَهجرِ، إلَّا أنَّ شاعرَنا، ومن عمقِ أرضِ الولاياتِ المتَّحدةِ الأمريكيَّة، يُطلِقُ هذا النِّداءَ المُكْتَنِزَ بمفاهيمَ عليَّةٍ، تؤشِّرُ إلى أنَّ أهلَ فلسطينَ وأُمَّتها، لنْ يقفوا مكتوفي الأيدي جرَّاءَ الكيدِ والخطبِ الذي حلَّ بأرضِهم فيها، بل إنَّهم سيعزفونَ عن النَّومِ إلى اليقظةِ، وسيفرشونَ السَّبيلَ أمامَهم للتَّضحيةِ والفداءِ، كي يُعيدوا الحقَّ السَّليبَ إلى سابقِ عهدِه، وسيسعَونَ إلى أمانيهم، وأكفُّهم مضرَّجاتٌ بالدِّماء، حتَّى لا تضيعَ منهم فلسطين، تلكَ الفسحةُ العاليةُ في مراقيهم وحياتِهم وأحلامهم!.


ثُمَّ يُبيِّنُ أبو ماضي، بأنَّ فلسطينَ فوقَ الكسرِ والتَّقسيم، كما أنَّها فوقَ الصَّلبِ والتَّجزئة، فيقول:


" يريدُ اليهودُ بأنْ يصلبوها   وتأبى فلسطينُ أنْ تذعنا


وتأبى المُروءةُ في أهلِها   وتأبى السُّيوفُ وتأبى القَنا".


إنَّها حتميَّةُ الحقِّ في سيرةِ السَّماءِ على الأرض، بألَّا يسقطَ العدلُ أمامَ العَسف، وبألَّا يبيدَ نورُ الشَّمسِ، أمامَ سطوةِ الغِربانِ وأجنحتِها؛ لذا يُعلي شاعرُنا من شأنِ المُروءةِ في أبناءِ القضيَّةِ، ليُبيِّنَ في نهايةِ المطافِ فكرتَهُ المتمحورةَ حولَ ديمومةِ مواجهةِ الأصالة للنَّذالة، حتَّى انقشاعِ الغُبارِ وسطوعِ الأنوار!.


وبعدَ هذا، ينبري ابنُ "الرَّابطةِ القلميَّة" إلى مسحِ ونزعِ القذى من عينيه، ذلكَ الذي عكَّرَ رؤياهُ حينَ دخلَ الجنرال اللَّنبي القدسَ بعدَ الحربِ العالميَّةِ الأولى؛ فيعيدُ قراءةَ حقيقةَ الموقف الإنكليزيِّ المُخادع، ويتركُ العَنانَ لحبرِهِ وفكرِه، صاعِدَيْنِ إلى المراقي الرُّؤيويَّةِ السَّنيَّة، فيخاطبُ بِلفورَ بما هو أهلٌ لهُ:


" فقُلْ لليهودِ وأشياعِهم   لقدْ خَدَعتْكُم بروقُ المُنى


ألا ليتَ "بلفورَ" أعطاكُم   بلاداً لهُ، لا بلاداً لنا


"فلندنُ" أرحبُ من قُدسِنا   وأنتم أحبُّ إلى "لندنا".


إنَّ القارىءَ المُتبصِّرَ، يقفُ على الفحوى العميقةِ لكلامِ شاعرِنا، ليتذكَّرَ عَبْرَهُ، وفي السِّياقِ نفسِهِ، أشعارَ وأفكارَ زملائهِ من الشُّعراءِ والأدباءِ المَهجريين في القضيَّةِ الفلسطينيَّةِ، وفي تنبيههم وتحذيرِهم من التَّعاضد الاستعماريِّ مع يهود، وما يترتَّبُ عليه من مآلاتٍ خطيرة؛ حيثُ انبرى إلى هذا الأمرِ العديدُ منهم أمثال: الشَّاعر أبو الفضل الوليد، والشَّاعر القروي(رشيد سليم الخوري)، الشَّاعر توفيق بربر، الشاعر إلياس فرحات، الكاتب الرَّحالة أمين الرِّيحاني والأديب ميخائيل نعيمة وسواهم.


وبالعودةِ إلى أبياتِ أبي ماضي السَّالفةِ الذِّكر، نلحظُ إشارةَ شاعرِنا إلى طبيعةِ العلاقةِ بينَ القوى الاستعماريَّةِ وأدواتِها بقولِهِ في مخاطبةِ يهود:" وأنتم أحبُّ إلى "لندنا"!.


 لا شكَّ في أنَّ الإشارةَ تنوبُ عن العِبارة؛ وكأنِّي بأبي ماضي يقولُ: إنَّ فلسفةَ التَّعاونِ القائمِ بينَ بريطانيا ويهود، تهدفُ إلى إنجازِ وتطبيقِ أجندتين متكاملتين في أبعادِهما، لجهةِ تنفيذ المشاريعِ المصلحيَّةِ لهما، والقائمةِ على تفكيكِ وتقسيمِ منطقتِنا، بما يضمنُ تكريسَ هُويَّةٍ جديدةٍ لها، وبعيدةٍ عن حضارتِها وأصالتِها، وبما يجعلُ كِيانَ يهود في فلسطينَ، رأسَ حربةٍ من أجلِ حفظِ المصالح الإنكليزيَّةِ والغربيَّةِ في هذا الشَّرقِ الغنيِّ بثقافتِهِ، ذاتِ الطِّرازِ الخاصِّ في العيشِ والحياة!.


وبعدَ ما تقدَّمَ، يرفعُ إليا أبو ماضي صوتَهُ بنبرةٍ حدْسيَّةٍ ورؤيويَّةٍ حادَّةٍ، وقائلاً:


" فليستْ فلسطينُ أرضاً مشاعاً   فتُعطى لِمَنْ شاءَ أنْ يسكُنا


فإنْ تطلبوها بسُمرِ القَنا   نردُّكُم       بِطِوالِ          القَنا


ففي العَربيِّ صفاتُ الأنامِ   سوى أنْ يخافَ وأنْ يجبنا


هو تحذيرٌ واضحٌ وصريح، وإنْ تدثَّرَ صيغةَ التَّعبيرِ الإخباريِّ، ذلكَ أنَّ شاعرَنا يقرأ الشَّأنَ بفكرٍ ثاقب، ويرسمُ المسارَ برؤيا عميقةٍ وموضوعيَّة؛ فأهلوهُ وأصحابُهُ، من أُمَّةٍ تُحسنُ القتالَ وفنونَ الكَرِّ والفَرِّ؛ اللهمَّ إنْ كانتْ تُوجَّهُ من أهلِ الأصالةِ والشَّهامة؛ وأمَّا إنْ انقادتْ لأولي الجبانةِ والتَّخذيلِ، فالأمرُ ينعكسُ إلى حينٍ مُقدَّر، ثُمَّ يعودُ الشَّأنُ إلى مجراهُ، ولا يبقى ليهود على أرضِ فلسطينَ سوى المأتمِ والكفن.


يقولُ صاحبُنا في ختامِ قصيدتِهِ، مسكَ القولِ ورُخاقَهُ المختومَ في تحذيرِ يهود، إنْ همُ استمرئوا احتلالَ فلسطين:


" فلا تحسبوها لكم موطنا   فلمْ تكُ يوماً لكم موطنا


وليسَ الذي نبتغيهِ مُحالاً   وليسَ الذي رمتُمُ ممكنا


نصحناكُم فارعووا وانبذوا   "بليفورَ" ذيَّالكَ الأرعنا


وإمَّا أبيتُم فأوصيكُمُ   بأنْ تحملوا معكُمُ الأَكفنا


فإنَّا سنجعلُ من أرضِها   لنا وطناً، ولكم مدفنَا"!.


تلكَ حتميَّةٌ من حتميَّاتِ سيرةِ الأرضِ والكونِ والحياة؛ بل هيَ من السُّننِ الكُبرى والمُثلى في هذا الوجود؛ عبَّرَ عنها شاعرُنا إليا أبو ماضي بأحسنَ ما يكونُ التَّعبير؛ وتركها مدوِّيةً في المراقي والأسماعِ إلى اليومِ المُبين: الانتصارُ للحقِّ آتٍ كاليقين، والهزيمةُ مآلُ الغاصبينَ والمحتلِّينَ والظَّالمين!.


 




عن مجلة الثقافة العربية أزمان هاشم

مجلة الثقافة العربية - مجلة أدبية -شاملة - - نهتم بكافة النصوص الأدبية سواء كانت شعر أو نثر أو قصة أو مقال إلخ -- نمد إيدينا لنشر جمال اللغة العربية لغة الضاد ومساعدة المواهب الأدبية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبادة الفيشاوي
»
السابق
رسالة أقدم
«
التالي
رسالة أحدث
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد

close
Banner iklan disini