» » في ذلك المساء_ قصة قصيرة بقلم/ ياسر الياس


"بلال... بلال…"

كانت الأصوات الخشنة والناعمة المفجوعة تنادي عليه فوق الطرق المتربة المتعرجة وبين أعواد القمح الصفراء المتهيئة للحصاد. السماء حائلة الزرقة تنبئ بغروب مجهول، والشعاع البرتقالي يتسلق جدران البيوت القروية المتناثرة بغير انتظام، كروح متمردة تهم بالرحيل.

كان يلعب مع الأطفال قرب أشجار التوت ثم اختفى، كأنه تبخر..! سألوا عنه الجميع. لا أحد يعلم عنه شيئاً؛ حتى آثار الخطوات المطبوعة فوق الرمال.

"هل جرفته الرياح..؟"

"هل ابتلعته الأرض..؟"

"الأمر كله بيدك يارب"

"ولدي…"

الصوت يرجع صدى مذعوراً عبر الحقول الفسيحة والدروب الملتفة، يصطدم بالجدران الكئيبة المتصدعة والنوافذ المشرعة بوجه المغيب، تلوح من عتمتها الفارغة وجوهٌ عابسة، ترقب المشهد في قلق، ثم تضرب العجائز صدورهن بلا وعي، كأنهن متيقنات من الفاجعة...! مثل جراحات الماضي القريب.

الوجه ذابل والشفاه بيضاء والدموع رسمت خطين متوازيين على وجه الأم.

يهتف الأب تحت سطوة الأفكار السوداء..

- لا تلطمي خدك منذ الآن كالغراب

- أنت لا تعلم شيئا عن النار المشتعلة في صدري

... ولدي الحبيب

يتلاشى الضوء الآخذ بالانطفاء، فتسري في الأجساد المنهكة رعشة المساء مشبعة برطوبة النهر البعيد.

تتجاوب أصوات الحشرات المختبئة في الجحور، طنينها المتزايد يصم الآذان المرهفة لأدنى حركة، كأنها همهمة القدر.

تحس أن شيئاً ما حاداً وقاسياً يتغلغل بين أضلاعها من خلال قماش الثوب المغبر، ثم يقبض على صدرها.

ينضم الآخرون للبحث فيشكلون قطاراً آدمياً، بعضهم يحملون فوانيس نفطية وآخرون يعلقون البنادق على أكتافهم الممتلئة تحت الجلاليب الفضفاضة، والكوفيات تلف رؤوسهم ناضحةً برائحة السكائر والبارود، فربما كان الأمر مدبراً من عائلة علوان طلباً لثأر قديم، حتى يفجعوا حماد بابنه الوحيد.

يتكاثف الظلام فتلمع النجوم البعيدة كأمنياتٍ صعبة المنال.

أنفاسه، ضحكاته ، شعره الأسود المنسدل على وجهه الصغير، مشاكساته التي لا تتوقف في فناء البيت أو عند السور. لم يشبعوا بعد من خدوده المعجونة بماء الورد.

أيكون ذلك أسوأ الكوابيس المنتظرة..؟ الظنون تراه ملقى في مكان مجهول، يتألم أو يبكي أو ربما....

أنياب الذئاب لا ترحم ولاعواؤها الغادر في سكون الليل، عيونها المتلصصة المتوثبة تلمع كالشموع المتقدة، تراقبهم بحذر لاهثة من بعيد خلف ذوائب الحقول المتجاورة.

الظلال المتكونة من الفوانيس تلقي خطوطاً غامقة السواد على امتداد الطريق، والأعواد اليابسة تتكسر تحت وقع الأقدام الثقيلة المتوعدة، والأصابع الصلبة تقبض بقوة على البنادق.

تختفي الوجوه والأجساد فتصير أشباحاً ينشق عنها الظلام ، بنداء أو سعال ثقيل أو كلمة سب لأبناء علوان أوبكاء مفجوع.

ينتهرها الرجل مرة أخرى..

- اخرسي، أنت السبب!

- صلوا على النبي ياجماعة!

تترنح الفوانيس فوق جذوع الأشجار وبين أكوام القش وفي مخازن الحبوب، يتوالى اصطفاق الأبواب واهتزاز الأقفال بلا أمل، لاشيء غير قطط مختبئة أو جرذان منزوية هنا أو هناك، لا طيف يرى له من قريب أو بعيد. أين اختفى...؟ لا أثر لأي دماء أو قطعة من ثيابه.

أصبحوا على مقربة من السكة الحديدية وهي تخترق أرضا منبسطة ممتدة حتى مشارف القرية المجاورة؛ رفعوا الفوانيس، عكست وجوهاً كالحة وتقاطيع قاسية حجرية الملامح، عليها ندب أو جروح غائرة نحتتها الأيام الصعبة والاقتتال القديم.

ند صوت غليظ يشي باستسلام مرير..

"ينبغي أن نعود ثم ننتظر انبلاج الفجر."

هتف قلبها بحرارة..

"اذهبوا أنتم، أما أنا فسأبقى. "

هز الرجل رأسه موافقاً لها، وجد نفسه يكرر ما قالته، وظهره يكاد ينشطر إلى نصفين من ثقل الحزن والصور المشوهة المتعاقبة في رأسه.

ربتت الأيدي على كتفيه من كل الجهات متوسلة له بالعودة.

يصمت كأنما ينتظر أن يحدث شيئٌ ما. يتخايل له الليل مارداً عملاقاً يضغط على أنفاسه بيد فولاذية ، إنها ذات اليد التي تغيب ولده الآن، فليطرد عن رأسه كل الأفكار المتشائمة، ولينتظر خيط الفجر الأول لعله يجلب الفرح أخيراً.

لكن ماذا لو انكشف عن مصيبة..؟ أي اختبار لصبره وجلده . تمنى لو أن رصاصته لم تخطئ علوان في ذلك اليوم

لو جرى للصبي شيئٌ ما، فليحفر لنفسه قبراً منذ الآن، وعشرة أخرى إلى جواره ؛ لتكن الدماء فيضانات تجتاح القرية الملعونة، أو انتقاماً مرعباً يبتلع الجميع هذه المرة حتى البهائم.

"فلنعد الآن"

انجابت صرخة كأوجاع الطلق ، اشرأبت الأعناق، تسارعت النبضات ، أنين مرتجف يأتي من تحت سقيفة منخفضة.

ضمته إلى صدرها، كان لايزال يتنفس، كأنها تحلم.

فلذة الكبد بين ذراعيها مجدداً، بإمكانها لمسه، لم تعد تهذي بأحلام اليقظة ولا هو.

جثا حماد على ركبتيه وقد أخرسه المشهد.

لم تكن تقبله بل كانت تستنشقه بكل ذرات جسدها..

بكل ما تبقى لديها من قدرة على الاحتضان لجسده الطري الغض المغطى بالكدمات..

ثم تكلم بصوت ضعيف..

"حلمت كأن ذئبا كبيراً هاجمني، فأنقذني عمي علوان."

ساد صمت ، ثم تساقطت البنادق فوق بعضها، كأغنيات منتشية على أعتاب الفجر.

عن مجلة الثقافة العربية أزمان هاشم

مجلة الثقافة العربية - مجلة أدبية -شاملة - - نهتم بكافة النصوص الأدبية سواء كانت شعر أو نثر أو قصة أو مقال إلخ -- نمد إيدينا لنشر جمال اللغة العربية لغة الضاد ومساعدة المواهب الأدبية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبادة الفيشاوي
»
السابق
رسالة أقدم
«
التالي
هذا الموضوع هو الاحدث.
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد

close
Banner iklan disini