السبت، 22 أكتوبر 2016

تفرّد الهندسة واستراتيجيا الولوج… قراءة في نصّ “عزف منفرد” للكاتبة: زينب الحسيني/لبنان بقلم الناقدة: زهرة خصخوصي/تونس


النّصّ:
عزف منفرد
من وراء السّحب كان يُرسل صفيرا
تذروه الرّياح في كلّ اتّجاه
عبثا يطلب استغاثات نجاة
لكنّ الحلم ابتلعه
كان يعزف آخر معزوفة له. وبعد أن أطلق العنان لجناحيه، عرف أنّ السّراب يقوده، وأنّ من المستحيل أن يعزف وحده
___________
تصدير:
ماضون
ماضون نحن ولا قمر في رماد
المساءات
لا نجمة في الأقاصي.. فقُل
هل ستسعفني الرّوح يا مدركي؟
هل سيسعفني جسدي؟
نحن بدء السّلالة.. نحن اشتعال
الطّقوس وآخر البشائر نحن..
_________
محمّد الغزّي/شاعر تونسي
مدخل:
كما الكائن الحيّ تظلّ الكتابة الإبداعيّة شعرا ونثرا ونقدا تنمو وتتطوّر وتنضج أكثر فأكثر حسب متطلّبات المرحلة الحضاريّة التي تنبجس من رحمها.. ولأنّ السّرد أحد تمظهراتها فإنّه ظلّ ينهل من ديدن التّطوّر هذا ويؤسّس في كلّ مرحلة حسب الإستقراء النّقديّ مدرسة خاصّة ينضوي تحتها دفق القرائح ومنها ينهل فكانت الواقعيّة والواقعيّة الجديدة والرّومنسيّة والرّمزيّة…..
وقد جاءت المدرسة الرمزية كرد فعل على سطحيّة القراءات النّقديّة التي تجود بها المدرسة الواقعيّة حيث تُظهر ما تضمر فيكتفي النّاقد بجهد الوصف أو “السّلخ” دون إعمال للفكر فيكون حضوره مُقتضبا على النّقل تماما كحضور الكامرا القديمة، سلبيّا بلا ريح لوجوده المفكّر.
حيث أنّ جوهر المذهب الرّمزي في الأدب التعبير عن المعاني الكامنه في النفس، التي لاتستطيع اللغة بصورتها المعتادة الكشف عنها، ولذلك يعمد الاديب إلى استخدام ايحاء الكلمات وايقاعها وظلالها، ورسم صور ظليلة وتعيبرات مفاجئة، ويقيم نوعاً من التّوافق بين اقتران بالمجاز واعتماده علي مكنونات حسيّة ويضفي علي الصّورة أبعاداً رمزيّة، من حيث أنٌّ الصّورة رمز يتأثّر بحالة‌ روحيّة، فهي صورة تعبيريّة لاتُخلق من عدم، وإنٌما يختارها” من الإمكانات المتاحة في اللغة ويستعين بمدركاته الحسية المختزنة ويقيم تفاعلاً من نوعٍ خاص، ليشكل نظاماً لغوياً قادراً علي إبزار الدلالات التي تحتويها التجربة الشعورية والفنية” (البحث عن لؤلؤة المستحيل /سيّد بحراوي ص47)، ليضع القاري‌ء في دائرة الشعور الذي يحب أن يوصله إليه عبر دفعه إلى القراءة المتبصّرة المسائلة النّصَّ عن عمقه المخفيّ ببنية سطحيّة مخاتلة تُظهر ما لا تُضمر..
وكان من طلائع المفكّرين أدباء وكتاب: الالماني جوته والأمريكي إدجار آلن بووتبعهما فيما بعد كتاب وشعراء أمثال شارل بودلير، صاحب ديوان أزهار الشرّ، وهو شاعر فرنسيّ مات صغيراً بعد أن أحدث أثراً كبيراً في الشّعر العالميّ، وكذلك ميلارميه الفرنسيّ ووليم بلاك الإنجليزيّ. وبفضل هؤلاء الرّوّاد استطاعت المدرسة الرّمزيّة أن ترسي قواعدها وترسّخ افكارها وتكشف عن هويّتها في المجال الأدبيّ.

ولم يكن الأدب العربيّ بعيداً عن حركة التّحوّل إلى المدرسة الرّمزيّة ؟ إذ انتقلت الرّمزيّة إلى الأدب العربيّ علی يد أدباء وروّاد، أمثال عبدالرّحمان شكري واحمد زكي أبوشادي.
ونجد أمثلة كثيرة للمذهب الرّمزيّ في قصائد الشّعرالحرّ الذي مال اليه معظم الشّعراء المعاصرين، مثل صلاح عبدالصّبور، محمود درويش، وعبدالوهّاب البيّاتي ونازك الملائكة، وفدوی طوقان، وبدرشاكر السّيّاب وغيرهم..
وتتواصل الرّمزيّة منهجا حاضرا في الأدب الحديث والمعاصر حتّى انبنى على عُمُده فنّ نثريّ جديد هو القصّة القصيرة جدّا التي لفرط نهلها منها نُعتت بأدب النّخبة المفكّرة… وإلى جوارها امتدّت فنون أخرى كالومضة والهايكو
وإنّي في قراءتي لنصّ الكاتبة اللّبنانيّة المتألّقة زينب حسيني الزّاخر بالرّمزيّة سأسعى إلى فكّ “شيفراته” عبورا إلى المسالك المفضية إلى درره عبر استقراء بنائه حدثيّا اعتمادا على الدّلالات النّحويّة للأفعال على الزّمان، ولغويّا من خلال الحضور المعجميّ والعلائقيّ اللّغويّ مفردات وتراكيبا ، فوقوفا عند التّبئير ثمّ العنونة كعتبة للنّصّ لا تُدرك مشروعيّة وجودها المخصوص دون توغّل في ردهات النّصّ ووعي بمقوّماته..
%//استقراء بناء النّصّ:
1/مخاتلة البناء الحدثي في النّصّ:
بناء على القواعد النّحويّة الخاصّة بدلالات صيغ الأفعال على الزّمن نجد الأفعال الواردة في النّصّ تدلّ على زمني الماضي والحاضر وذلك كالآتي:
*
زمن الماضي من خلال تصريف الفعل في صيغة الماضي:
-
عرف أنّ السّراب يقوده..وأنّ من المستحيل أن يعزف وحده
ابتلعه
*
زمن الماضي من خلال اقتران الناسخ كان بصيغة المضارع المرفوع:
كان يُرسل صفيرا
كان يعزف
فنرى أنّ الكاتبة قد جعلت نصّها مُستَهَلّا بالماضي منتهيا به فانغلقت بنيته الزّمنيّة..
*
زمن الحاضر:
تجلّى لنا في هذا النّصّ “عزف منفرد” من خلال فعلين واردين في صيغة المضارع المرفوع غير مقترنين بحرف أو أداة وهما:
_
تذرو
_
يطلب
وقد وردت الجملتان المتضمّنتان هذين الفعلين داخل جسد النّصّ(بعد الجملة الأولى مباشرة). فما وجه تخلل الحاضر للماضي في هذا النّصّ؟
للظّفر بإجابة عن هذا التّساؤل المحيّر لابدّ من توقّف عند التّنامي الحدثيّ في الحكاية والذي نجده كالآتي:
_
من وراء السّحب كان يرسل صفيرا
_
كان يعزف مع آخر معزوفة له
_
بعد أن أطلق العنان لجناحيه، عرف أنّ السّراب يقوده، وأنّ من المستحيل أن يعزف وحده
_
لكنّ الحلم ابتلعه
_
تذروه الرّياح في كلّ اتّجاه
_
عبثا يطلب استغاثات نجاة
وبهذا نلفي أنفسنا أمام حكاية تجربة فاشلة، لشخصيّة البطل، في إقصاء الآخر وتضخّم الأنا في دائرتها المغلقة على ذاتها، امتدّت في الماضي، فتيه ومحاولة عبثيّة يائسة للخلاص منها في الحاضر، لتستمرّ كينونة الماضي تسجنه في بوتقتها حيث توقّف الفعل في الزّمن فيها لعجز الإرادة عن خطّ منهج صائب للخروج من شرنقة الأنا المتضخّمة..
وتتجلّى لنا هذه الهندسة المخصوصة للنّصّ التي تجرّأت على بنية السّرد القصصيّة الخطّيّة :وضع انطلاق فسياق تحوّل فوضع ختام، خدمة لمقاصد مخصوصة مستفيدة من أنّ البناء الفنّيّ وسيلة في النّصّ لتحقيق الغايات المرجوّة، لا غاية مستقلّة بذاتها يتوق إليها الكاتب، وأنّ الغاية في الإبداع تبرّر الوسيلة ما دامت إليها تُفضي..
2/
مربكات البناء اللّغويّ:
إنّ القارئ المتوقّف عند نصّ المبدعة زينب حسيني “عزف منفرد”، يُسائله أسراره، يُلفي نفسه مذهولا بالبناء اللّغوي المُربك الفكرَ يستفزّه ويُغريه بالإبحار في يمّه المتلجلج..
وقد ارتكز هذا البناء المخصوص على الأسس التّالية:
*
الحروف الصّفيريّة:
وهي ثلاثة حروف اتّفق اللّغويّون على نعتها بالصّفيريّة لصوتها القويّ المحدث صفيرا حتّى عند القراءة السّرّ للقرآن في الصّلاة حيث لا يُسمع ممّا يقرأ المصلّي من القرآن غير صوتها، وهي الزّاي والسّين والصّاد..
وقد تناثرت هذه الحروف في تسعة مواضع من النّصّ فلم تخلُ منها إلّا جملتان وردتا غير متعاقبتين هما”تذروه الرّياح في كلّ اتّجاه” و”لكنّ الحلم ابتلعه”. وهو تناثر يرسّخ صوت الصّفير في ذاكرة القارئ فيدفعه التّوق إلى إدراك كنه ذلك دفعا إلى الحفر في طود النّصّ تفكيكا ومساءلة..
*
الحضور المعجميّ:
في النّصّ يحضر معجمان أساسيّان متقابلان هما معجم الجمال ومعجم القبح
_
معجم الجمال:
حضر في النّصّ من خلال الجذر الحرفيّ الثلاثيّ الصّحيح السّالم (ع.ز.ف) في شكل اشتقاق فعليّ(يعزف/مرّتين) واشتقاقين اسميين(المصدر “عزف”/ واسم المفعول “معزوفة”) وهو جذر يدلّ الفعل والأسماء المشتقّة منه على الفرح والطّرب والرّقّة والجمال..
كما حضر معجم الجمال من خلال التّركيب الموصوليّ الحرفيّ “أن أطلق العنان لجناحيه” الدّال على الحلم والأمل والرّفرفة نحو أفق مُشتهى للظّفر برغد الوجود وعذوبته وجماله..
_
معجم القبح:
تجلّى في النّصّ من خلال المفردات التّالية:
/
صفيرا= مشتقّ من الجذر(ص.ف.ر)، والصّفير صوت يُنسب في الموروث الشّعبيّ إلى صدى الرّيح في البيداء أو المكان الخالي وإلى الشّيطان، لذلك عُدّ من المكروه من الأصوات.. التصفير هو من خصال الجاهلية ، وقد ذم الله في القرآن الكريم كفار قريش على هذا الفعل ، فقال سبحانه : ( وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) الأنفال/35.
جاء في “فتاوى اللجنة الدائمة” (26/390) :
الصفير لا يجوز ، ويسمى في اللغة : ( المكاء ) ، وهو من خصال الجاهلية ، ومن مساوئ الأخلاق ، ( وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ) “..
قال ابن القيم: “ومن مكائد الشيطان التي كاد بها من قل نصيبه من العقل والعلم والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين، سماع المكاء والتصدية والغناء بالآلات المحرمة الذي يصد القلوب عن القرآن
و”الصّافر كلّ ما لا يصيد من الطّير.. ابن عربي:”الصّافر الجبان”، ومن قولهم في المثل:” أجبن من صافر”(لسان العرب ج7ص361)
/
تذرو: “ذرا يذرو، ذرت الرّيح التّراب وغيره تذروه وتذريه ذروا وذريا وأذرته وذرّته أطارته وسفته وأذهبته، وقيل حملته فأثارته … وذرا نابه ذروا انكسر وقيل سقط وذَرَوتُه أنا أي طيّرته وأذهبته..”(لسان العرب ج5صص39_40 )
فهو فعل دالّ على قبح الحال التي آلت إليها شخصيّة بطل الحكاية بفعل تقوقع أناه على صوتها وتضخّمها..
/
عبثا: مصدر مشتقّ من الفعل “عبث” دالّ على اللّعب ولا جدوى الحدث، “عبثا: لعب فهو عابث: لاعب بما لل يعنيه، وليس من باله.. لغير قصد ولا على جهة الانتفاع..”(لسان العرب ج9ص09).
/
ابتلع: وهو الفعل الدّال على انتهاء الوجود على الهيئة الأصليّة إذ ما إن يتمّ الابتلاع حتّى يُهرس المُبتلَع ويمسي أشلاء..
/
السّراب: “الذي يكون نصف النّهار لاطئا بالأرض، لاصقا بها، كأنّه ماء جار.. السّراب يخفض كلّ شيء حتّى يصير لازقا بالأرض، لا شَخصَ له..”(لسان العرب ج6ص227)
هي مفردات متنوّعة اجتمعت كلّها في نصّ أساسه إيحاء بالجمال منذ العنوان فمعراج نحوتصوير قبح حال شخصيّة البطل وفعله وسوء مآل تضخّم أناه في بؤرة برجها العاجيّ ذي الرّأي الواحد والصّوت الواحد الذي يرتدّ صداه صفيرا مؤذيا سمع صاحبه وروحه ووجوده، فتتداخل أوراقنا ونحن نتوق إلى فكّ طلاسم خارطة ذي المربكات، لنزداد إيغالا في تفكيك نسيج النّصّ أملا بمؤشّرات هادية إلى إدراك توقنا ذاك
*
التّضادّ اللّفظي والتّقابل التّركيبي:
بدا هذا الأسّ في مخاتلة البناء اللّغويّ، في هذا النّصّ البذخ “عزف منفرد” للمبدعة زينب حسيني، جليّا وقد تمظهر في ما يلي:
اللّفظ /التّركيب________ نقيضه
عزف_________________صفير
الحلم_________________السّراب
أطلق العنان لجناحيه_________الحلم ابتلعه
عزف منفرد_____________من المستحيل أن يعزف وحده
إنّه تضادّ يؤرجح الحكاية في النّصّ فيصوّر تشظّي الشّخصيّة بين واقع موجود لا يتلاءم مع وجود منشود، لتسكننا الحيرة من جديد: ماهذا المنشود المستحيل في عالم إنسانيّ “لو تعلّقت همّة المرء فيه بما وراء العرش لناله”؟ !!
3/
التّبئير:
في نصّ “عزف منفرد” للمبدعة اللّبنانيّة زينب حسيني يُعلن الرّاوي حضوره لا شخصيّة فاعلة في الأحداث، بل “أنا” عليا عليمة بما حدث، مشرفة على ما يحدث، مدركة لجوهره سابرة لاختلاجات الشّخصيّة..
وقد تجلّى هذا الحضور من خلال ما يلي:
*
نقل الحكاية: فالرّاوي يروي حكاية شخصيّة تاقت إلى عزف منفرد وحين تجربة تجسيد الحلم أدركت عجزها عن تحقيقه لكنّها ظلّت أسيرته تتشظّى بينه وبين الموجود في لحظة تشرنق في فراغ الزّمن..
*
العلم بباطن الشّخصيّة: فالرّاوي عليم باختلاجات شخصيّته (عرف أنّ السّراب يقوده، وأنّ من المستحيل أن يعزف وحده)
*
التّفاعل مع الأحداث: وهو حضور جسّده الرّاوي عبر آليّتين:
/
وصف الحدث: إذ وصف صوت فعل العزف بالصّفير (كان يُرسل صفيرا)
/
الحكم على الحدث: إذ نجده يبرز موقفا فيه حكم حازم على فعل الشّخصيّة وهو يقول:” عبثا يطلب استغاثات نجاة”، لتبدو الشّخصيّة من خلال هذا الحكم لاهية لا مقصد تناله وهي تتخلّى عن إصدار استغاثات النّجاة لتطلبها من آخر يغيب عن الحكاية..
هذا التّنوّع في حضور الرّاوي في النّصّ يقدّمه لنا في صورة الواعي بأطوار الحكاية منطلقا ومعراجا ونهاية، الحامل في جرابه رسائل عساني أظفر بها في درب الارتحال الاستقرائيّ هذا..
4/
العنونة:
ورد العنوان/عتبة النّصّ مركّبا نعتيّا (عزف منفرد) دالّا على منهج موسيقيّ يتمّ فيه الاكتفاء بعازف واحد على آلة واحدة.. والعزف المنفرد يُمتع الإنسان بصوت آلة قد تغيب متعته وعذوبته حين تُحشر مع المجموعة من الالات الأخرى وتتلاشى براعة عازفها في العزف..
وبناء على هذا يوحي النّصّ بسرد لحكاية يتفرّد فيها العازف بالعزف فينثر الفرح والبهجة..
لكنّنا ونحن نلج متن النّصّ نصطدم بقبح العزف ذاك، ومرارته حتّى يبدو الصّوت نشازا /صفيرا..
وإذ يصف السّارد صوت العزف بالصّفير فهو يومئ إلى آلة نفخ من ذوات الصّوت الرّقيق مثل النّاي. والنّاي من أهمّ الآلات الموسيقيّة، عبر التّاريخ. ونغماته توليفة شجن وحبّ مؤثّرة لا تنفكّ تنسج أقنومات سرّ الوجود..
تاريخيّاً يعد النّاي من أقدم آلات الموسيقى الشّرقية الهوائيّة، وتاريخه العريق غارق في الدّلالات المعبّرة، وبحسب المصادر التّاريخيّة فقد استخدم البابليون وقدماء المصريّين آلات النّفخ، وقد صوّره السّوريّون القدماء على جدران كهوفهم. ومن أنواعه ما كان يسمّى تيكي أوتيكر.كما وجدت صور آلات النّفخ في كثير من الآثار القديمة، منها آلة نفخ قصبيّة طويلة، وجدت صورتها على حجر من اللّازورد في مقابر مدينة أور الأثريّة في جنوب العراق، ويعود تاريخها إلى عام 2700 ق.م، ويظهر بالصّورة قرد ينفخ فيها، وهو جالس تحت شجرة تحيط به بعض الحيوانات، وذلك بينما يضع القصبة في فمه بصورة مائلة كعازف الناي الحديث .وكان الاســم القديـــم لهذه الآلة نا (بالأكاديّة) ونابو (بالكلدانيّة). وكان النّا أو النّابو يستخدم في الألحان الحزينة،. وأصبحـــت هذه الكلمـــة تعني الحزن (في اللّغة الأكاديّة). وفي أسطورة عشتار وتموز تندب عشتار (إلهة الحبّ والحرب) عشيقها القتيل فتقول:” لقد أصبــــح قلبي مثل النّا (أي النّاي) الحزين.”
وبناء على ما تقدّم تبدو العنونة مغترفة من أحد أسس الموسيقى العربيّة في الأمصار الشّرقيّة من الوطن، مؤصّلة الحكايةَ في بيئة كاتبتها.. لكنّ تحوّل العزف إلى صفير في المتن يدفعنا إلى جملة من التّساؤلات قد يجيب عنها الإبحار في استقصاء مقاصد النّصّ..
فإلام رمت كاتبتنا المبدعة زينب حسيني بنايها هذا الذي توسّلت بحدث العزف عليه لتصفه بالصّفير؟
وأيّ جراح أشبعتها ملحا في ذا النّصّ لندرك حجم آلامها ومدى تعفّنها؟
وأيّ سائل حمّلت نصّها القصير هذا؟
%//مقاصد النّصّ:
لحضور النّاي في هذا النّصّ البذخ عبر المؤشّرين الدّالين عليه: عزف منفرد/ صفير، تناصّ مع حضوره في مواضع عدّة من الانتثارات الأدبيّة السّابقة له.
فقد تغنّى الأدب الصّوفيّ بهذه الآلة الموسيقيّة على لسان جلال الدّين الرّوميّ وهو يشبّهه بالإنسان حيث يبدو هذا الأخير نايا إذ ينأى عن أصله متأرجحا بين الخواء والامتلاء، مكابدا معاناة الاغتراب وتجويف الذّات، ويبدو النّاي إنسانا في ترجيعه الحنين إلى الأصل المفتقد عازفا ألحان الحزن والفقد، فنجده يقول:
استمع الى هذا الناى يأخذ فى الشكاية ..ومن الفرقات يمضى فى الحكاية.
منذ أن كان من الغاب اقتلاعى..ضج الرجال والنساء بصوت التياعى..
انى أبتغى صدرا قد مزقه الفراق..ليشعر منى بآلام الاشتياق.
كل من يبقى بعيدا عن أصوله..لا يزال يوما يروم أيام وصاله..
نائحا قد صرت على كل شهود..وقرينا للشقى وللسعيد.
وبعده تغنّى البيّاتي قائلا:
أصغ إلى النّاي يئنّ راويا
قال جلال الدّين
النّار في النّاي
وفي لواعج المحبّ
والحزين
النّاي يحكي عن طريق طافح بالدّم
يحكي مثلما السّنين
تشرين يا حبيبتي..”
ليخرج جبران خليل جبران بالنّاي من ترديد حزن أبديّ إلى فرح بالوجود وتخليد له وهو يردّد:
أعطني النايَ وغنِّ فالغنا سر الخلود
و أنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود
______________________
أعطني النايَ وغنِّ فالغنا خير الصلاة
و أنين الناي يبقى بعد أن تفنى الحياة
_______________________________
أعطني النايَ وغنِّ فالغنا عدل القلوب
و أنين الناي يبقى بعد أن تفنى الذنوب
أعطني النايَ وغنِّ و انس داء ودواء
إنما الناس سطور كتبت لكن بماء
في منزع صوفيّ مكتمل البهاء ينضح فرحا بالوجود وترنّم بما يسكب أنين النّاي فيه من ضياء..
لكنّ الكاتبة المبدعة زينب حسيني في نصّها هذا، وليد زمن الوجود الإنسانيّ المتشظّي بين كيد السّاسة واهتراء جلد الهويّة الذي يسمنا حتّى كدنا نُلفيه أسمالا، المنبجس من رحم مفكّرة مدركة حجمَ مأساة الوجود في أوطاننا اليوم، التّوّاقة- ككلّ بني ذي المرحلة التّاريخيّة وما قبلها منذ بدايات تاريخ الانحطاط العربي وربّما حتّى ما يلحقها- إلى رتق تلك المزق وترميم ما تصدّع والبناء من جديد بناء حضاريّا يعيد للهويّة كيانها الألق وللأوطان سيادتها التّامّة وللشّعوب أحلامها السّرمديّة، تتوسّل باعتماد العزف المنفرد، على ناي يضحي صوته صفيرا بعيدا عن همس الرّوح ورفرفة الأناشيد الصّوفيّة، لتطرح قضايا توزّعت بين ماهو إنساني وماهو سياسيّ، وماهو عاطفيّ..
فكيف تجلّى ذلك؟
1/
المقصد الإنسانيّ:
تطرح الكاتبة في نصّها قضيّة تضخّم الأنا وانغلاقها على ذاتها في “عزف منفرد” غايته البروز والتّميّز فينتهي به المطاف صفيرا منفّرا لا خلاص من بوتقته..
فالإنسان بما هو “بشر بنيته متهافتة وطينته منتثرة وله عادة طالبة وحاجة هاتكة ونفس جموح وعين طموح وعقل طفيف ورأي ضعيف يهفو يهفو لأوّل ريح..”*، ما إن يتناهى إليه صوت نفسه صادحة بالغرور حتّى يحيطها ببرج عاجيّ من تضخيمها وإقصاء للآخر فيئد وجوده وهو يخال نفسه ينحته على مرمر..
ولعلّ التّاريخ الإنسانيّ زاخر بذي الحكايا..
وتمضي مبدعتنا في تعرية ذا الوجه الإنسانيّ البشع وهي تصف هذا العزف بالصّفير الذي بيّنّا ارتباطه بصوت الإنسان وكأنّها تردّد:” إنّ الغرور وتضخّم الأنا ورفضها الاخر رجس من عمل الشّيطان لابدّ من اجتنابه فلا ظفر بمغفرة لمن سلك دربه ولا خلاص من إثمه لاستحالة إدراك لبوّابات التّوبة منه(عبثا يطلب استغاثات نجاة)
2/
المقصد السّياسيّ:
لا مناص لأيّ قريحة اليوم وهي تدفق من النّأي عن كلكل الواقع السّياسيّ وإن كانت تتغنّى بقصص الحبّ وترانيم الوصال..
ومبدعتنا في نصّها هذا ولجت ساحات الوغى السّياسيّة الحاليّة بكلّ جرأة منتقية النّاي مؤشّرا دالّا عبر تاريخه المتأصّل في المشرق العربيّ، كما أسلفنا القول في هذه القراءة، على بؤر المعاناة السّياسيّة الأكبر الان بسبب العزف المتفرّد والصّوت الواحد والتّسربل برجس الشّيطان(إنّ الشّيطان كان لكم عدوّ) ..
وهي تبثّ إلينا رسالة مضمّنة تدعونا إلى التّفطّن كما راوي الحكاية في نصّها إلى أنّ هذا الواقع يفضي إلى سراب وأنّ الخلاص منه مستحيل إذا ظللنا نرسل”طلب استغاثات نجاة”، بل علينا بالفعل الحكيم النّابع من إرادات ذاتيّة مستقلّة مؤمنة بقدراتنا للخروج من هذا التّيه شعوبا متآزرة في المصر الواحد وفي الأمصار المختلفة في الوطن العربيّ الواحد..
وكأنّها تردّد قول التّوحيدي:” نحن جيل المأساة وجيل الخلاص معا، إذا لم نعمل ولم نعد ونستعد فلا أمل لنا بمحو وصمة العار التي يحملها كلّ منّا”**
وتحذّرنا من تواصل واقع كان كحلم مشوّه يبتلعنا، (الحلم ابتلعه)، يهوي بنا “من وراء السّحب” ،حيث الرّفعة والسّمو،ّ إلى “السّراب”، بما هو انخاض لكلّ شيء حتّى يلتص بالأرض حيث التّدنّي، وكأنّنا نسمع في حروفها وشوشات الرّوائيّ المبدع محمود المسعدي وهو يردّد منذ نصف قرن” كانت أحلامنا من أغرب الأحلام وكلامنا من أغرب الكلام فكأنّنا نهوي من فوق..”***
فتتجاوزالمبدعة زينب حسيني بنصّها البذخ هذا وظيفة النّقل والنّقد إلى وظيفة الإرشاد نحو سُبُل البناء الأسلم والأكمل..
3/
المقصد العاطفي:
الكتابة القصصيّة تربة خصبة لكلّ زرع وبواسقها تجود بشتّى الثّمر لمن تاق إلى بذل جهد القطاف.. والنّصّ الواحد قد ينفتح على أكثر من مقصد فتتجاور المقاصد فيه أو تنسلّ من بعضها البعض أو لا تلتقي أحيانا كالخطوط المتوازية.. لذلك لا غرو أن يتّسع هذا النّصّ القصير “عزف منفرد” لأكثر من مقصد ترمي إليها الحكاية فيه ويحملها جراب اللّغة الرّحب..
فكما أنّ ذي الكتابة “حفر في كيان اللّغة واشتغال عليها وسعي متواصل إلى التّفرّد والتّميّز باللّفظ الجيّد والمعنى الشّريف وإنشاء كون إبداعيّ أرحب..”****
فإنّها تصوير للحلات الوجدانيّة كما السّياسيّة والإنسانيّة..
ونحن في نصّ “عزف منفرد” نستمع إلى صوت روح عزفت على وتر الهوى وحيدة ناسجة حلم وصال النّبض والنّبض وبوح الفؤاد للفؤاد ورفرفتها في ذرى سماء تماهيها مع روحها المعشوقة، مشيّدة قلاع الفرح بوجد آت ونهل من نبع وله لا ينضب.. ثمّ تصطدم وقد ولجت بوّابة الحلم الأخيرة وهي تتهيّأ لتحقّق الحلم بحقيقة أنّها صوت بلا صدى، وأنّها بجناح ولهها الوحيد المنفرد لا يمكن لها أن تحلّق بعيدا عن سحيق واقعها، ويمسي عزفها على وتر الهوى صفيرا يؤذيها قبل الآخر..
ومبدعتنا تصوّر ذي الحالة الوجدانيّة بكلّ مخاتلة اللّغة ورمزيّتها نُلفيها توغل في تصوير مجامر الرّوح الهاوية إلى مهاوي العزف المنفرد دون اهتداء إلى سُبُل الخلاص منها لأنّ الحلم “ابتلعها” و”عبثا” تطلب ممّن انصهرت في الوله به “استغاثات نجاة”…
وهي بكلّ تصويرها هذا تقدّم الحكاية عبرة لكلّ معتبر رسالتها أنّ التّيه خلف أحلام الرّوح دون بوصلة تحدّد مسار ضياء روح الحبيب رحلة على الجمر قائدها السّراب ونهايتها تلاشي الكيان إذ رياح الكشف المفجع تذروه في دروب ندم بلا ذاكرة تهدي إلى أوبة إلى الهدأة والسّكون..
إنّه نصّ بذخ فيه نشتمّ عبير الفكر وشذى الرّوح وفيه يخرج النّاي من عباءة الصّوفيّة إلى جلباب أرحب وأشمل..
خاتمة:
هل لنا بعد ولوجنا هذا النّصّ البذخ، وتوغّلنا في ثناياه ومنعطفاته، ونهلنا من شهد بنائه الفنّيّ المخصوص، و اغترافنا من زلال معينه الدّلالي ثريّ المقاصد، أن نقول إنّ الكتابة لا تكون إلّا حاملة لبنية دون أخرى أو منهج لغويّ دون آخر أو ناطقة بقضيّة دون سواها؟
إنّ هذا النّصّ “عزف منفرد” يؤكّد أنّنا نكتب
و” سنكتب من أجل ألّا نموت.. سنكتب من أجل أحلامنا
سنكتب أسماءنا كي تدلّ على أصلها في أجسامنا
سنكتب ما يكتب الطّير في الفلوات، وننسى تواقيع أقدامنا
نمرّ على الرّيح.. منّا المسيح، ومنّا بوذا، ومنّا مؤرّخ أرحامنا
نمرّ على الأرض.. لا نشتهي حجرا للكلام ولا السّلام على شامنا
كما قال شاعرنا الرّاحل محمود درويش في “ورد أقلّ”******
هكذا هي الكتابة: وجود وتأصيل لكيان..
وهكذا ألفيتُني أقف مشدوهة أمام هذا النّصّ الذي بدا كالنّهر غاصّا بما قد يفتقر إليه البحر..
سلمت قريحتك البذخة مبدعتنا المائزة ولا نضب مدادها الخصيب..
زهرة خصخوصي/تونس
__________________
المراجع:
*
الرّاهب الجرجاني
**
الإمتاع والمؤانسة
***
مولد النّسيان وتأمّلات أخرى
****
الباشا العيّاري “خصائص الكتابة القصصيّة عند الدّكتور محمود بلعيد: أغنية لميّادة نموذجا
*****
قصيدة “نؤرّخ أيّامنا بالفَراش


التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد

close
Banner iklan disini