الاثنين، 7 نوفمبر 2016

زِيارَةٌ – بقلم- عبد العالي النميلي- المغرب





دَخَلَ إِلى مَخْدَعي هذا المساء الشاحب شَبَحُ رَجُلٍ غَريب ٍ, بادي الانكسارِ لَيْسَ لِوَقْعِ عَصاه صَوْتٌ على أرضيةِ غُرْفَتي الغارِقَةِ في الصَّمْتِ ، دون اسْتِئْذانٍ ولا تَحِيَّةٍ وبِدونِ أَدْنى حَرَجٍ . تَقَدَّمَ مِنْ مَكْتَبي ، سَحَبَ كُرْسِيَّ الْخَشَبِيَّ وَعَدَّلَ عَلَيْهِ وِسادَةَ الْقَشِّ الْمُعَبَّدَةَ ، ثُمَّ جَلَسَ بِهُدوءٍ . مَدَّ بَصَرَهُ إِلى الْخارِجِ عَبْرَ نافِذَتي الْواطِئَةِ . كانَ يَبْحَثُ عَنْ شَيْءٍ ما . وَلَمْ يَكُنْ ذلكَ الشَّيْءُ في ظَنّي سِوى فِكْرَةٍ أَوْ صورَةٍ شارِدَةٍ . اِلْتَفَتَ الزّائِرُ الْغَريبُ إِلى يَمينِهُ فَلَمَحَ فِنْجانَ قَهْوَتي الصَّباحِيَّةِ ، رَفَعَهُ وَنَظَرَ بِداخِلهِ لَيَرْشُفُ مِمّا بَقِيَّ فيهِ بِشَهِيَّةٍ بادِيَّةٍ . وَكَأَنَّ ذلكَ ما كانَ يَنْقُصُهُ إِذْ سُرْعانَ ما تَناوَلَ قَلَمي ، أَمامَ دَهْشَتي فَأَخَذَ يَكْتُبُ في نَفْسَ الْكُرّاسَةِ التي أُسَوِّدُ عَلَيْها أَشْعاري . في هذِهِ اللَّحْظَةِ ضاعَفْتُ مِنْ انْتِباهي إلى الزّائِرِ الْحَزينِ ، فَرَأَيْتُ ثَلاثَ دَمْعاتٍ أَوْ أَرْبَعاً تَسْقُطُ مِنْ عَيْنَيْهِ عَلى إيقاعٍ وَئيدٍ تَلْمَعُ عَلى ضَوْءِ الِمِصْباحِ النّاعِسِ وَتَسْتَقِرُّ بَيْنَ الْكَلِماتِ التي خَطَّها بِلا عَجَلٍ . بَعْدَ ذلكَ اسْتَسْلَمَ الرَّجُلُ لِنَوْبَةِ سُكونٍ مُريبَةٍ جَمَّدَتْني ، وَبَقيتُ وَجِلاً مُرْتَبِكاً قَبْلَ أَن أَقومُ حَذِراً وَبِبْطْءٍ بالِغِ مُتَقَدِّماً نَحْوَهُ مَدْفوعاً بِشُحْنَةِ كَبيرَةٍ مِنَ الإشْفاقِ وَقَدْ تَدافَعَ الدَّمْعُ إِلى عَيْنَيَّ الْقاحِلَتَيْنِ حَتّى غامَتِ الْغُرْفَةُ أَمامي ، أَمْسَكْتُ بِطَرَفِ الْكُرْسِيِّ ، وَمَدَدْتُ يُمْنايَ لِأُرَبٍّتَ عَلى كَتِفِ زائِري الْغَريبِ غَيْرَ أَنَّني لَمْ أُلامِسْ غَيْرَ الْفَراغِ . وَبَدا الْكُرْسِيُّ خالِيّاً كَما تَرَكْتُهُ مُنْذُ الصَّباح . هَبَّتْ ريحٌ مُفاجِئَةٌ حَرَّكَتْ جَناحَيْ نافِذَتي وَلَفَحْتُ بِبُرودَةِ الْمَساءِ وَجْهي فَانْتَشَلَتْني مِنَ الْوُجومِ ، لِأَتَطَلَّعَ بِهَلَعِ إِلى سَطْحِ الْمَكْتَبِ . على صَفْحَةٍ مِنْ كُرّاسَةِ أَشْعاري رَأَيْتُ قَصيدَةٌ صَغيرَةً ، أَسْطُرُها تُشْبِهُ آثارَ قَدَمَيْ طِفْلٍ عَلى مَمْشى يُغَطّيهِ الثَّلْجُ . وَكانَتِ الدَّمْعاتُ الثَّلاثُ أَوِ الْأَرْبَعُ قَدْ اخْتَرَقَت طَبَقَةَ الثَّلْجِ السَّميكَةَ وَأَحْدَثَتْ ثُقوباً سَوْداءَ مُتَفَرِّقَةً كَأَنَّها أَعْيُنُ دُنْيا مُنْقَرِضَةٌ تُحَدِّقُ إِلَيَّ بِمَرارَةٍ.  
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد

close
Banner iklan disini