الثلاثاء، 20 ديسمبر 2016

عمر الورد ما يهمي شذاه- بقلم / د . خديجة الدالاتي ...


عندما قرأتُ قول الأخطل الصغير ( بشارة الخوري )  :
وعمْرُ الوردِ ما يهمي شذاه
                    على دنياهُ لا شهرٌ وعامُ

تساءلتُ ؛ إذا كان عمر الورد يقاس بمدة انتشار رائحته الشذية ، فبماذا يقاس عمر الإنسان ؟
من المؤكد أن العمر الحقيقي للإنسان لا يقاس بعدد السنين التي يحياها ، وإنما يقاس بما يقوم به من خير وبرٍّ وإحسان ، وبما يقدم من عمل وعلم يعود بالنفع على الآخرين ...

وعندما استعرضتُ ما في شريط الذاكرة من أسماء المبدعين استرعى انتباهي أن أكثر المبدعين عاشوا حياة قصيرة من ناحية عدد السنوات ، أما أعمالهم فعظيمةٌ خلدتْ ذكرهم على مرِّ العصور .
وهنا ، أذكر من هؤلاء المبدعين ؛ سيبويه الذي تدين له العربية بإرساء قواعد عِلمَيْ النحو والصرف ، ووضع أسس الدراسات الصوتية ، والذي لاقى وجه ربه الكريم في بداية العقد الثالث من عمره . فمن هو سيبويه ؟ وما أهمية كتابه ؟

هو عمرو بن عثمان بن قنبر ، فارسي الأصل ، ينتمي بالولاء إلى الحارث بن كعب بن عمرو بن علة بن جلد بن مالك بن أود . وقد اختُلِف في كنيته ، فهو أبو بشر ، وهو أبو الحسين ـ وهو أبو عثمان . وأثبت هذه الكنى جميعاً أبو بشر . أما لقبه فقد عرف به منذ القديم ، لم يلقب به أحد قبله ، وهو سيبويه ، ومعناه رائحة التفاح . ولد بفارس ثم هاجر أهله إلى البصرة ، فنشأ بها ، وطلب العلم والحديث والفقه بها . ويبدو أن تاريخ مولد سيبويه غير معروف على وجه الدقة ، وكذلك تاريخ وفاته ، فقد اختلف فيه اختلافاً كبيراً ، ولكن أرجح الأقوال أنه توفي سنة 180 هـ  ...

أما سبب طلبه النحو فكان بسبب الحادثة التالية : كان سيبويه يستملي الحديث على حمّاد بن سلمة ، فبينما هو يستملي قول النبي صلى الله عليه وسلم : « ليس من أصحابي إلا من لو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء » ، فقال سيبويه : « ليس أبو الدرداء » إذ ظنَّه اسم ليس ، فقال حمّاد : « لحَنتَ يا سيبويه ، ليس هذا حيث ذهبت ، وإنما ليس ها هنا استثناء » ، فقال له : « لا جرم سأطلب علماً لا تلحنني فيه » فلزم الخليل فبرع . ونتيجةً لبراعته تلك ، كان كتابه الشهير الذي عُرف منذ القديم وإلى يومنا هذا باسم ( الكتاب ) ، وقد سماه الناس قديماً : قرآن النحو  ...

وكتاب سيبويه إنما هو لقاح جهود النحاة الذين سبقوه وخاصة شيخه الخليل ، إذ لا يعقل أن يبتدع سيبويه هذا العلم المتكامل دون أن يفيد من تلك الجهود الأصيلة التي رسمت كثيراً من أصول النحو ومسائله ومقاييسه وعلله ، وقد ضَمَّ كتاب سيبويه بين دفتيه آراء مؤلفه ، إضافةً إلى آراء أستاذه الخليل ، فقد عقده سيبويه بلفظه ولفظ الخليل . ولم يقرأ سيبويه كتابه على أحد ، ولم يقرأه أحد عليه ، ولم يسند الكتاب إلى سيبويه إلا بطريق تلميذه أبي الحسن الأخفش  ...

والحق أن كتاب سيبويه من القوة بحيث كان المرجع الأساس في علوم العربية منذ تاريخ تأليفه إلى اليوم ، فكل ما جاء بعده كان عالة عليه ، وكل ما فعله اللاحقون أنهم شرحوا غامضاً أو اختصروا مُطوَّلاً أو بسطوا معضلاً  ...

ولا ريب في أن أسلوب الكتاب فيه كثير من الغموض ، ويحتاج إلى غير قليل من الشرح والإيضاح ، وهذا ما يُلاحظ من خلال شرح السيرافي على سيبويه ، فالمجلد الأول - مثلاً - من هذا الشرح لا يحتوي إلا على شرح بضع صفحات فقط من الكتاب . ولكن التمرس بأسلوب الكتاب وتعرف مصطلحاته ، يجعل من قراءته متعة نافعة ، ونفعاً ممتعاً ، ويضع أساساً سليماً للدراسات النحوية المعاصرة ...

لقي كتاب سيبويه منذ ظهوره حظاً سعيداً لدى العلماء . وقديماً قالوا : إن الكتب تشقى وتسعد ، كما أن الإنسان يشقى ويسعد ... وقد نال هذا الكتاب السعادة ، كل السعادة . ولكن هذه السعادة في الحظ كانت عن أصالة في البنيان ، ومتانة في التكوين  ...
...
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد

close
Banner iklan disini