الثلاثاء، 14 يناير 2020

ماذا لو كانت أمي؟/ بقلم / صديقة علي





تنهمر الرسائل اللجوجة في هاتفي، والحافلة لم تغادر المحطة بعد.
تسأل أمي فيها:أين وصلت .
..الأكل سيبرد.
 انتبه لنفسك.. 
يقولون الطريق من دمشق غير آمن.
انتبه لنفسك. . .
.يا لتوقيت أمي، كعادتها تضبطه وفق مشاعرها.
ـأخيراً سوف تُفرح قلب الوالدة برؤيتك طالت غيبتك هذه المرة.قال السائق. 
ـ يا عم أنت أدرى ... السفر والإجازات شبه مستحيلة في هذه الحرب.
أبو مصطفى السائق، كان مرسال أبي إليّ حين قطعت الطرق، وتعذر السفر لأشهر عدة.ـ لطالما أتاني  محملا بمكاتيبه ـ  أبي الذي  لا يعترف بالهاتف النقال، ولا بالرسائل القصيرة، ويعلن في كل مرة أنها لا تكفيه ليشرح مشاعره، ولا تتسع لقائمة توصياته ـ وكانت الإرسالية الأشهى، التي أنتظرها،هي طعام أمي الذي أتقاسمه مع أبي مصطفى،إذ يضطر للبقاء معي، ريثما يتمكن من العودة  .

المقعد الخاوي بجواري، أشعل في نفسي أملاً باشغاله بشابة،  لعلها تكسب السفر القاحل نداوة تنعش وتختصر الوقت .لكن خاب أملي إذ اندفعت سيدة تبدو بالستين من عمرها  بكتلتها الضخمة إلى مقعدي ، أزاحتني باتجاه النافذة.وشغلت ثلاثة أرباع المقعد مما دفع بالسائق للابتسام بخبث ...
ـ لم تمشِ الأمور معك على ما يرام،  دكتورنا الغالي.
تجاهلت مزاحه، فقد خشيت أن تنتبه السيدة بأنها المقصودة،وبدأت أبحث عن منفذ للهواء، يخفف من رائحة تعرقها أتتعرق  بكانون؟
 كنت قد تعودت على رائحة البارود المتسرب بدماء الجرحى،لكن ما أن خرجت من دوامة ضحايا الحرب ، حتى عدت  إلى نزقي،  هان الأمر عليّ بتذكري  ما تركته في المشفى الذي أختص به.
أغلقت كتابي، ورحت أراقب الوشوم المغروزة بتجاعيد وجهها، والتي تعطي  صرامة لوجهها العابس. عينيها كعيني الصقر. الجمود فيهما يخبئ حزنا دفينا،أرى يدها عدة أكمام فوق بعضها البعض..كم عباءة ترتدي هذه السيدة؟.
 شعرت بالعداوة اتجاهها، قد يكون لتوتر أعصابي من رائحة العفن، أو لخيبة أصابتني باشغالها مكان صبية الحلم، بل ربما من ازعاجها المتزايد مع مرور الوقت، ومع كل انعطاف للطريق،تحشرني أكثر  وأشعر أنني بالكاد اتنفس ، فقد تركت جسدها بلا مبالاة ،كتلة حرة دون أن تقاوم، على الأقل لو تتمسك بحافة المقعد،حاولت ان ألفت نظرها بتأففي لكن خجلت من شيخوختها، و لم أتجرأ على قطع  شرودها المستمر، وبت أشك برؤيتها لي، فملامحها الحيادية لا توحي بأنها تهتم لمن يجلس بقربها.

ساعات طويلة تفصلني عن طعام أمي .ماذا تطبخ هذه لأولادها؟ وماذا لوكانت أمي؟ .سألت نفسي ..هل كنت سأتافف منها،راح ذهني يخلق لها الأعذار،قد تكون مهجرة،أو على سفر طويل، تمنيت أن أفتح حديثا معها،'لكن صمتها المبرم حال دون ذلك.
رددت على رسائل أمي بإخبارها بانزعاجي من رفيقة السفر هذه ، أمي تهتم بأدق التفاصيل،وتهوّن عليّ ،تنصحني بتجاهل الأمر المهم أن أصل بالسلامة.

أجفلني صوت السيدة حين دقت بكفها  على صدرها، ومدت كامل جذعهاصوب مقدمة الحافلة
ـ  الله أكبر  ياساتر ....
جاء ذلك تزامنا مع صراخ  السائق وهو يوقف الحافلة فجأة:
ـ أكلناها ياشباب. حاجز إرهابي .
عكست المرآة نظرات أبو مصطفى القلقة و المسلطة عليّ والخائفة.بل المشفقة شعرت أنه يشيعني.
.صعد اثنان من المسلحين إلى الحافلة، بينما أحاط بضعة منهم بمقدمة الحافلة، وأشهروا بنادقهم عليها . تجمد الدمّ في عروقي  ..
ـ الله أكبر... الله أكبر. صرخ أحدهم وكأنه يكبر على ذبيحة .
قال الآخر بلكنة غريبة قريبة للفصحى: 

ـ  عسكري ـ موظف بالدولة الكافرة ـ أو ومن تلك الطائفة اللعينة يسلمنا نفسه  ورأسه فورا لنقطعه .. مفهوم ...
يا لسخرية القدر، أغلب شروطهم منطبقة عليّ، وكافية  لجزّ عنقي .
 تراءت لي أمي، تنتظرني على طاولة الطعام،  وصوت أبي يطن بأذني، وهو يدلي بنصائحه برسالته الأخيرة لي ، (لا تستسلم لأسر مذلّ ولو كلفك ذلك حياتك).
 كيف لي ألا استسلم وانا الأعزل إلا من ذعري.
   شعرت بأن  السيدة.تراقب ارتجاف ساقي ،وضعت يدها بحنو على ركبتي.
وقبل أن يصل المسلحان إليّ ومع انشغالهما بهويات المسافرين، نكزتني وبدأت تسرد أوامرها لي،بهمس يخرج من حلقها دون أن تحرك شفتيها ونظراتها تتابعهما : 
ـ بسرعة هات  ..هات ياولدي ...هات  اعطني مامعك .
ناولتها محفظتي وهاتفي، رفعت منديلها الملفوف على عنقها، وأسقطت ما بيدها في عبها بخفة ساحر .ثم فتحت محفظتها الرجالية المشققة. أما الكتاب الذي نسيتُه بيدي، خطفَته بغضب  ودسّته تحتها برشاقة مذهلة.
 كانت تتصرف بثقة، وكأنها متدربة على هذه المواقف ،بت مرتبكًا أمامها، مستسلمًا لتعليماتها الصارمة، تهمس لي:  لاتتفوّه بحرف.
صرخ بي أحدهما:
ـ  هويتك ..
.لم أجرؤ على النظر في عينيه .صرخت هي بوجهه:
[هذا ابني، الله يحميك ..دعه لي،  هو أخرس، لا يتكلم ..ولا يسمع].
هويته معي ....نعم معي نحن من دير الزور،وعادت تولول ...هذا ولدي   ...أخرس ..أخرس لا يحكي .
وكأنها تؤكد على أوامرها لي بعدم السمع أو النطق  ..
ـ .آخ يا ولدي ....
حرموني منك ياولدي ...ما شبعت منك ياعمري. تابعت بصوت مفجوع.
تشد رأسي إليها تريد إخفاء وجهي تحت إبطها. شعرت بالتلاشي،بتُّ طفلاً صغيراًمذعوراً في حضن أمه.
 ..  ...بيديها المرتجفتين أخذت تخرج أوراقًا مصفرة من محفظتها ،..امتدت الأشواك من حلقي إلى شفتيّ، أخذت أتصبب عرقًا وخوفا ً.خشيت عليها من موت يقترب منها باحتمال  انكشاف أمرها..وسمعت صوت ورود الرسائل إلى هاتفي المخبأ في ثنايا عباءتها ..كصوت قطرات الماء ...
 نوافذ الحافلة تكاد أن تتهشم من ضغط الأصوات المتداخلة عليها، نساء ينتحبن هلعًا ـ وأطفال يصرخون بذعر شديد .  وصيحات المسلحين  الله أكبر... الله أكبر.الرجل الذي خلفي يرتل آيات  قرآنية لينجو بروحه. بدا الجو جنائزيا مع غروب الشمس ،وبالتدريج بدأت انفصل عمن حولي،  اقتصر وعيي على إرهابي تكفل بالتحقيق معها  وعلى ولولتها وندبها الهستيري،ملوحة بكمها الممتد كراية سوداء خارج كفها،  ولشدة صدقها بما كانت تفعله صدقتها.

.شرعت تخرج الأوراق...بطريقة مسرحية مذهلة ...
 ..ألفي ليرة  هل تريدهم؟هذه  شهادة معهد الصم والبكم ..وهذه  شهادة طبية ،وهذي هويته  ..وأسقطت من يديها هوية مشروخة. وغطتها بقدمها، فخيمت بطرف عباءتها الواسعة على هوية ابنها، وراحت  تبكي وتبكي مع عينيها كل مسامات وجهها، يعلو صدرها ويهبط  مع لهاثها المخيف-مسح  المسلح بنظرة قاسية مشككة وجهينا   ...ودفع بعقب بندقيته يدها المحملة بالأوراق فتناثرت.صرخ بها:
ـ اخرسي ياامرأة.
  وتابع حصاده ببقية الركاب .

..سارا بضباب الرؤية،  واناأغوص في مقعدي ،أثبت فكي بيدي كي لا أسمع اصطكاكه. لكنهما تجاوزانا .نسيا أن يعودا إلينا،أم أنهما اقتنعا بأدائها الارتجالي المذهل، والذي لم تتوقف عنه حتى جاءها صوت كالعواء
ـ قلت لك اخرسي ياامرأة ...أوجعت رأسي بنباحك.
انحبس نشيجها،وتمسكت بيدي، تشد أصابعي بكل قوتها، حتى شعرت أنهم التصقوا، وفقدت الحركة بهم.
عاد البلل إلى حلقي بترجلهما من الحافلة، وبانزياح شبح الموت عنا.
مع سير الحافلة الناجية سارعت بانحنائي لالتقط ما أسقطته ،   ارتطمت جبهتي بركبتها، و فاحت من قدميها رائحة أرض موحلة .

مدّت يدها إلى عبّها، أخرجت منديلا قماشيا ومسحت وجهها به، بدأ تنفسها يهدأ ببطء،  كمن توقف للتو عن الركض.

عادت الحافلة للتوقف   .توجّست الخطر مرة أخرى ،لا سيما أن السائق لم يبرر توقفه ،وظلت نظراتنا المتسائلة معلّقة به، وهو يقفز من مقعده، ويتجه صوبنا. انحنى بسرعة على رأس السيدة يقبله،ويقول بأعلى صوته وكأنه يتكلم بلسان الجميع وينظر إلي تارة وإليها تارة أخرى بعينين  تشع السعادة منهما   :
ـ بارك الله بك يا أختي، كيف استطعت أن تتصرفي بهذا الشكل المحيّر؟.
ابتسمت بحزن شديد، وعلى زاوية فمها تجمعت دمعتان في أخدودين، وكأنهما أعدا لذلك.

أجابته  بجمل متقطعة  :
ـ يا أخي أنا ما فعلت إلا ما أحسست به، إني عائدة من دفن ابني .. هربنا إلى  الشام  خوفا من أن نموت  جوعا،فقتلوه بسيارة مفخخة  ...المجرمون لا يعرفون بأن ولدي لم يسمع صوت الانفجار الذي قتله ..حتى قبره تصدق المحسنون به علينا.
وعاد مرة أخرى يقبل رأسها مواسيًا:
ـ الله يرحمه ويحتسبه شهيدًا ...والآن إلى أين أنت ذاهبة..؟هل تعرفين أحداً في اللاذقية؟
أجابته بحسرة، وهي تودع بحرص هوية ابنها مع أوراقه بمحفظتها المهترئة: 
ـ لا أدري  ...أهل ما عندي ...زوجي مات وارتاح  قبل الحرب، وتابعت تكلم نفسها، مع تنهيدة حارة  خرجت من أعماقها.
(آه ...  هنيئا له  ما شاف الذي شفناه...مافجع بولده) .
صافحني السائق ومضى يصافح كل الركاب.، مهنئا إياهم بالسلامة وأخذ يخبرهم: المسلحين غادروا على عجل وكأن  اشارة وصلت إليهم بأنهم في خطر، لذلك فشلوا بكمينهم هذا.
ـ على عجل ؟قلت في نفسي أي عجل وإحساسي يشير بأنه مضى دهر على احتجازنا !.
راحت منقذتي تحمد الله على سلامتي، وتعيد لي أشيائي التي عبقت بالمسك .تطهرت دموعي بظهر كفها ...وتمتمت بشكرها لكن خذلني حلقي.
 بحنان غامر مسدت رأسي وهمست  : ( الله يحميك لأمك) أعدت يدها الدافئة إحساسي بالطمأنينة و أعادت صوتي.

فتحتُ هاتفي على ابتهالات أمي كي أصل سالمًا، فكتبت لها بيدٍ خجلى:
 اطمنئي... سأصل بعد قليل بصحبة أمي ...سأقيم مجلس عزاء .

من حكايا الحرب
7/1/2020
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد

close
Banner iklan disini