الثلاثاء، 28 يناير 2020

أزهار ذابلة/ بقلم -أنعام القرشي


إنه متعبٌ دون شك. يبدو هذا جليّاً على قسمات وجهه الحزين.
ينام على حافة السرير منكمشاً وهو يضع كفّيه بين ركبتيه، فيما الغطاء الأبيض يتمتم متسائلاً بعد أن سقط على الأرض كعادته في كل يوم:
" ترى، كم مرة سوف أسقط من جديد، فأفقد معنى وجودي برحيل هذا الشاعر الزائر ؟!"
غرفة المكتب التي أجلس فيها محشوة بالكتب القديمة، وأكاد أسمع صوت ممرضته وهو ينبعث من بين الصفحات المصفرّة سائلة إياه برفق:
- سيدي "السياب" هل أنت بحاجة إلى شيء؟
أعاود الإصغاء إلى صوته الخافت القادم من الماضي وهو يجيب الممرضة بلطف.. بينما تنبعث من هناك، رائحةٌ خجولة لبقايا زهرات مهملة على حافة النافذة، وتتراءى لي سجائره وهي تحرق بعضها كأيام عمره المتتالية...
لسان حاله يقول لي :
لا حرية لروحه المعذبة بين الجدران.. ولا وجود لجسده المنهك خارج الكلمات.
يحدّق ملياً في سقف غرفته بالمستشفى، فيخال بأن هنالك أشكالاً غامضةً تحاكي قصص أحلامه المستعصية.. ووجوه أبطالها الكادحين الهاربين من قسوة الزمن إلى البعيد...
: ما الذي أريده بالتحديد؟!
تساءل في نفسه وعلى لساني.
إنه السؤال الذي طالما كان يجول في سماء خاطره الملبدة بالغيوم السوداء.. ثم يغادر مع سحب الدخان المتطاير من بين أصابعه النحيلة.
يتساقط الرماد فوق بنطاله إثر غفوة عابرة.. يصحو مندهشاً :
- أين انا؟
كأني به يستحضر لحظات الغياب. يتناول فنجان القهوة الباردة، ويرشف منه رشفة واحدة.. ثم يضع يديه على صدره وكأنه يحتضن نفسه مودعاً.
: "كنت بالأمس، مقيداً، لكنني سعيد. لقد تركت من ورائي كل شيء: وجه أمي الراحلة البعيد مثل قمر، حنان جدتي الذي لا ينضب، رفاق الدرب الأوفياء، نخيل البصرة الشامخ، البيت القديم، الملابس المطوية في خزانة الماضي، وعشق رفيقتي الذي ليس له حدود...
حاولت أن أتشبّث بذيل الثوب الأسود الذي ترتديه هذه الدنيا، فلمْ أظفر إلا بالوهم.. ولم أحظَ إلا بالألم. لقد فقدت الشعور بالأمان منذ طفولتي المبكرة، وتلاشت حريتي في خضم العذاب كالسراب".
يبحث عن حذائه أسفل السرير. يمشي إلى النافذة. يرى شجرة ضخمة تحجب الأفق.
يتساءل بمرارة:
- لماذا اختنق ؟
ينتبه للمرآة الصغيرة إلى جانبه. يطالع  صورته المتضائلة فيها. يرى جمجمته وقد كبر حجمها بعد أن ازداد نحول  جسده، وتقعّر بطنه. أما شعره، فقد تراخى وانسدل مثل ستارٍ داكنٍ على مشهدٍ أليم.
- كم تغيّرت.. كنتُ جميلاً ؟!
يحاول أن يبتسم، لكنه لا يستطيع.
شغلته التفاصيل الموجعة وغرق فيها. اقترب من أكوام الكتب، ووضع ديوانه الأول: "أزهار ذابلة" تحت إبطه، وخرج الى الشارع ، وهو ينوي العودة إلى قريته الأثيرة "جيكور" .
بعد عدّة خطواتٍ وئيدة، سقط مغشياً عليه، ولم يفتح عينيه إلا في السرير، حين أيقظته سكرات الموت، لكي يودّع الحياة ملوحاً لها من شرفة يومه الأخير...!!

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد

close
Banner iklan disini