ثلاثة أعلام في العربية من القرنين الثاني و الثالث الهجريين هم مفاتيح هذه السطور في الشعر دلالة و صياغة .
أوّلهم محمود الورّاق القائل :
ه.................................................
1- يا أَيُّها المُتعِبُ بُزْل الجِمال
وَطالبَ الحاجاتِ مِن ذي النَوال
2- لا تَحسَبَنَّ المَوتَ مَوتَ البِلى
فَإِنَّما المَوتُ سُؤالُ الرِجال
3- كِلاهُما مَوتٌ وَلَكِنَّ ذا
أَشَدُّ مِن ذاكَ لِذُلِّ السُؤال
4- نَهيمُ بِالدُنيا وَنَلهو بِها
وَإِنَّما الدُنيا كَفَيِّ الظِلال
5- بَينا تَرى الفَيءَ عَلى حالِهِ
مُعتَدِلاً إِذا مالَ بَعدَ اِعتِدال
6- كَذَلِكَ الدُنيا وَتَصريفُها
تَميلُ بِالإِنسانِ حالاً فَحال
و فحوى قوله في هذه القطعة :
ه....................................................
أيها المنتقل سفرا بإبله من مكان إلى آخر بحثا عن الكرماﺀ .. اعلم أن الموت ليس هو الفناﺀ و
لكنه الاستجداﺀ
و الدنيا عابرة كانتقال الظل فلا تستحق أن تذل نفسك فيها بسؤال الآخرين عطاﺀ و نوالا
و هذه المعاني حكمية أخلاقية يمكن إيجازها في كلمة : الاستغناﺀ عن الناس عز و سؤالهم مذلة .
و هذا النصح الحكمي نال إعجاب أحد شيوخ العربية في الكوفة و هو أبو عمرو الشيباني و عدّ هذه الأبيات نموذجا للشعر المطلوب .
على أن الجاحظ ( و الشيباني من أساتذته ) خالف شيخه في هذا و سخر من محمود الوراق نافيا عنه إمكانية قول الشعر ( مع أن أبياته موزونة مقفاة تخلو من أخطاﺀ المعاصرين في النحو و الصرف و الإملاﺀ و المعجمية و الوزن )
ففي رأي الجاحظ أن الوراق لايمكن - أيضا- أن يكون له ولد شاعر من بعده !!!
أظنه - بلغة العلم في عصرنا - ينفي عن خلاياه و صبغياته و جيناته توريث الشعر .. فوريثه من صلبه لا بد أن يكون مثله ...
الممكنات الشعرية :
ه..............................
يرى الجاحظ أن الشعرية لا تتولد من سياق المعنى و إن كان موزونا مقفى بمعزل عن فنّية الشعر .
و للتوضيح أقول :
إن صانع الفخّار أو الزخارف الجصّية قد يكون فناناً مبدعا رغم رخص المادة التي يستعملها . و أما بائع الذهب فمادته نفيسة قيّمة و قد تكون في شكل سبائك لا فنّ في تشكيلها و لا إبداع ..
فالمادة لدى هذين الرجلين مثال عن المعاني
و فن التشكيل بمثابة الصياغة الجمالية . و عليه يمكن أن نجد في الإنتاج المنسوب إلى الشعر الممكنات التالية :
1 - النص متواضع القيمة الدلالية و الجمالية معاً
كقول من قال :
ما أصلب الصخور
ما أكبر البحار !
و الوقت بعد الليل
ندعوه بالنهار !
2- النص رفيع القيمة الدلالية متواضع الصياغة الجمالية
كقول القائل :
الشمس تشرق في الصباح فحاذرَنْ
من أن تظن الليلَ ليسَ يزولُ
3- النص متواضع القيمة الدلالية بهي الصياغة الجمالية
كهذا القول :
هيهات منّي اليأسُ فالآمالُ
منّي تَدَفَّقُ و المُحالُ مُحالُ
4- و النص الأسمى هو الجامع بين سمو الدلالة و مهارة الصياغة الجمالية
كقول البردوني عن منطلق الثورة ضد الاحتلال الإنجليزي لجنوب اليمن ( جبل ردفان ) :
رَدْفانُ نادى أن أذو دَ و أن احيلَ الصعبَ سهلا
فحملتُ رأسي في يدي كي لا تكون الكفُّ رِجلا
رأي الجاحظ :
ه...................
و بالعودة لأبيات الوراق نجد أنها من النصوص الدلالية لا الجمالية
و لهذا لقيت إعجاب الشيباني و سقطت عن تعريف الشعر عند الجاحظ الذي يرى أن المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي ( المدني)
وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء , وفي صحة الطبع وجودة السبك
فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير .
فالشعر عند هذا الأديب العربي الألمعي ( صناعة و نسج و تصوير )
و ما أبلغ قوله : كثرة الماﺀ !
فحين تنظر إلى روضة كثيرة الماﺀ ترى علامات الخصوبة جمالا لا يدانيه جمال : ازهارا و ثمارا و طيورا و فتنة تخلب الألباب .. لذة للناظرين .
فتأمل نضج مفهوم الشعر عند العرب قبل أكثر من اثني عشر قرنا و راجع ما تظن أنه شعر لأنه موزون مقفى و قد يكون من سقط الكلام .
فضلا عن قرزمات متعثرة في الأساسيات نحوا و معجما و إملاﺀ و وزنا محاطة بالغرور التافه المريض !
حلب : 2020/12/17م