» » الرّحيل إلى الغُروب- بقلم- الكاتبة- مهدية أماني

_حجزته في غرفته آملة تخليصه من السموم المجروعة والمحقونة في جسمه الشاب،آلام مبرحة،  قيء وهلوسة، عقايبل الانقطاع الفظيعة تكاد تعصف بتوازنها وتفت من عضد تماسكها ، جففت عرقه ومسحت على رأسه بحنان ، تتبّعت تقاطيع وجهِ كان يوما ما بضّا نديا يتفجر شبابا ،ولم تتبق منه الآن غير نتوءات وحُفر ،جفون ظلُلها السواد وحوافي فــــم مزموم عليه بياض زبد ، بكت من حرقتها ووحدتها، لامت نفسها..كيف لم تستشعر مجسات أمومتها إشارات معاناته ؟ أخذتها تصاريف الحياة والجري وراء لقمة العيش وألهتها عنه ، لم ترْتض أن تمــدّ يدها أو تستجديَ عطف أحد ،هدهدته كما  كانت تفعل وهو طفل، هدأ رعاشه وغفا..أوصدت الباب وخرجت تتزود بما يكفي لأيام يبدو أنها ستكون أكثر قساوة وعنفا ، حين يطالب جسده بالجرعة المشؤومة.
 
لما رجعت وجدت باب الغرفة مخلوعا ، سقط قلبها بين ضلوعها ،الْتاعت من فَرَقها عليه ،انتظرت طويلا تحت نهش أنياب الهواجس علّه يعود كما تعود أن يفعل كل مرة. أسدل الليل ستاره على الوجود ،فتكتل الظلام على قلبها وانحبس نفسها ،اتجهت نحو النافذة تستجدي لرئتيها بعضا من هواء ،لطمها الخواء اسودّت الدنيا في عينيها، وتضاءل أملها في أن ترى طيفه الحبيب يظهر على ناصية الشارع ،أطفأت الأضواء وبقيت مستيقظة يحُفّها اليأس والأسى من كل الجهات وتتضارب الأفكار في عقلها المحموم .. تتساءل أين عساه يهيم على وجهه في هذا الليل القارس المخيف ؟
 
قضت ليلة بطول سنة ، لم يغمض لها جفن ولا سكن خاطر ، وتلاها نهار كقطعة من جحيم ، مرت حياتها كشريط أمام عينيها ، حياة عز وصفاء ودلال ، حتى أحبت من لم تقبل به عشيرتها وتبرأوا منها ، ضحّت بكل شيء ، كسرت طوق التقاليد ، قفزت على تفرقة الطبقات وعاشت حلما وأدته الجهرة إلى مجهول الغرب فابتلعه تاركا في أحشائها بذرة منه تتنامى وتخرج لحياة لم تخْترها ، تعهّدت بارقة الأمل المتبقية لسنين قبل أن تنطفئ وتخبوَ كقنديل جف زيته ..لم تأل جهدا في رعاية ابنها وتربيته ، لكن مكان الأب بقي شاغرا ، وأحدث غيابه في قلبه ووجدانه فراغا مُهولا تسربت من فَجّه ريح الإدمان فعصفت بكل جميل فيه ..تذكرت كم كان وسيما ولطيفا، و كم أحبت شغبه الطفولي ، وكم أحبّ البحر وشقشقة الشفق على جبين الأفق صبحا ،وحمرة الغسق على خد البحر وقت المغيب .. جزعت ، لكنها تمالكت نفسها ، واتجهت في لهفة نحو المكان الذي طالما جلسا فيه يترقبان عودة عزيز امتطى موجه ، ويودعان النهار وهو يغرق في المحيط الدامي، تتقاذفها أزقة المدينة القديمة ، تنبح عليها الكلاب الضالة ، وتطبق عليها حيطان عتيقة كالزمن وقد تآكلها الملح وأحماض إفرازات المتسكعين والسكارى.
 
هناك ، وجدته ساندا ظهره للصخرة الملساة الندية ، تحتضن بحنـوّ يده الباردة ، تنفثت فيها أوارَ قلب مكلوم ، وحين نظرت في عينيه المشرعتين على اللامتناهي الأزوردي ، أطل عليها من غَوْرهمـــــا ..
شبــــح
شمس
 
آفلة.

عن مجلة الثقافة العربية أزمان هاشم

مجلة الثقافة العربية - مجلة أدبية -شاملة - - نهتم بكافة النصوص الأدبية سواء كانت شعر أو نثر أو قصة أو مقال إلخ -- نمد إيدينا لنشر جمال اللغة العربية لغة الضاد ومساعدة المواهب الأدبية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبادة الفيشاوي
»
السابق
رسالة أقدم
«
التالي
رسالة أحدث
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد

close
Banner iklan disini