» » المجذوب / بقلم- أ/ مصطفى عواد


متى استوطن هذا المجذوب حارتنا؟
قلت، بينما أطل من شباك غرفة النوم على الشارع الخلفي الضيق، فاقتربت زوجتي، وطلت متفحصةً، قبل أن ترمقني بنظرةٍ متسائلةٍ، فابتسمت وأنا أغوص في عينيها الواسعتين، ثم درت إلى حيث كان المجذوب، ذو اللحية الكبيرة المشعثة، والشعر الطويل الجعد، والملابس المهلهلة، يرسم خطوطاً ودوائر على التراب بعصاه الغليظة، ثم ارتددت للخلف مستغرباً، وأنا أشير للموضع الشاغر الذي كان يحتله جسده النحيف منذ ثوانٍ، وقلت:
-كان هنا! أين ذهب يا ترى؟!
تنهدت زوجتي، وعادت لكومة الملابس المكدسة على الفراش، جلست، وبدأت في طيها بعنايةٍ، ورصها فوق بعضها البعض بصبرٍ، ونظامٍ كبيرين، وبترتيبٍ روتينيٍ لم يتغير أبداً منذ تزوجنا. تابعتها بينما تفرز الملابس، كل نوعٍ على حدة ..ملابس الخروج..ملابس المنزل..الملابس الداخلية. مكونةً اثنى عشرة صفاً، ثلاثةٌ تخصني، وثلاثةٌ لها، وستةٌ لملابس الولد والبنت. تابعت الصفوف التي تتنامى مرتفعةً، كلما أضافت لأحدها قطعةً مطوية، وبدت لي كعماراتٍ شاهقةٍ كتلك التي أشرف على بنائها في المشروع الجديد لشركة المقاولات التي أنا أحد كبار مهندسيها، والمشرف الأول على كل مشاريعها.
-طالت لحيتك كثيراً
فجأةً قالت، دون أن تلتفت، ودون أن تتوقف عن طي الملابس. تأملت يديها اللتين تتحركان بسرعةٍ، ومهارة حتى بدتا وكأنهما ماكينة طي، وتحسست وجهي الذي امتلأ بشعرٍ خشنٍ، أشد كثافةً من عشب ملعب كرة القدم في نادي المهندسين..قبضت على لحيتي، فوجدتها تسترسل إلى ما تحت قبضتي بعدة سنتيمترات
متى نمت تلك اللحية!
حدثت نفسي، وأنا أغمض عيني محاولاً تذكر، متى كانت آخر مرةٍ نظرت فيها للمرآة!
فتحت خزانة الملابس، والتقطت حلتي الرمادية، وقميصي الأبيض، ورابطة العنق السوداء..شرعت في ارتدائهم على عجلٍ، وأنا ألقي نظرةً سريعةً على ساعة الحائط التي تشير إلى تمام العاشرة صباحاً، أخيراً التفتت زوجتي، وكنت قد انتهيت تماماً، فهبت واقفةً، وقالت:
-إلى أين؟
-إلى العمل، تأخرت كثيراً
فتحت باب الغرفة، وخرجت..ابتسمت لابني الذين انهمكا في تناول الفطور أمام التلفاز، فرمقاني باستغراب، اتجهت لباب الشقة، وفتحته بينما زوجتي تهتف خلفي:
-انتظر
-ليس الآن، أجلي كل شيءٍ لما بعد عودتي من العمل
قلت، بينما أقفز درجات السلم هابطاً، حتى كدت انكفيء على وجهي..ضربتني نسمةٌ خريفيةٌ باردةٌ ما أن وطأت قدماي أرض الشارع، كان الجو صحواً، لكنه لم يخل من بعض البرودة التي تميز هذا الوقت من العام. نظرت عن يميني، فوجدت المجذوب في مكانه السابق، كان مايزال منهمكاً في رسم الدوائر والخطوط العشوائية، بتركيزٍ كبير
-أنت
ناديته، فلم يلتفت..اقتربت منه بخطىً واسعةً، وأنا أقول:
-أنا أتحدث إليك
أخيراً، رفع رأسه، ورمقني بنظرةٍ جمدتني ..تسمرت في مكاني، وأنا أغوص في عينيه، وشعرت كما لو أنني أسبح في بؤبؤيهما الذين اتسعا، فرأيت أفلاكاً، ونجوماً، وسدوماً تدور حول نفسها وتسحبني دون إرادةٍ مني، أو مقاومة! انتشيت بينما أطير خفيفاً، كريشةٍ تحركها الريح كيف تشاء.. أغمضت عيني مستمتعاً، فغاب الزمان والمكان..حاولت أن أتحسس جسدي، فاصطدمت كفاي بالفراغ! صفرت ريحٌ في أذني، ووجدتني أدور..وأدور..وأدور، وطاقةٌ من نورٍ تنفتح، وتبتلعني. فجاةً، شعرت كما لو أنني أهوى من حالق...نظرت، وكان كوكب الأرض بلونيه الأزرق والأخضر، كرةً في حجم قبضة اليد، يقترب بسرعةٍ خياليةٍ، ويكبر. بدت معالم مدينتنا كصورةٍ تذكاريةٍ -كتلك التي تباع للسياح- التقطت من ارتفاعٍ شاهق، كتلةً من مبانٍ متراصةٍ، يقسمها مسطحٌ مائيٌ إلى نصفين، ثم بدأت تتضح تفاصيلها، فرأيت حينا..فالشارع الرئيسي..فالشارع الجانبي حيث ترتفع البناية التي أقطن بها كمسلةٍ فرعونية، رأيتني واقفاً قبالة المجذوب، وكنا كتمثالي شمعٍ يرمق كلٌ منا الآخر دون أي أثرٍ يدل على الحياة! واصلت السقوط بسرعةٍ تزيد كلما اقتربت من الأرض.. عدة أمتارٍ تفصلني عنها، والاصطدام حتمي..أغمضت عيني مستسلماً لمصيري، قبل أن تربت كفٌ على كتفي، ففتحتهما، وشهقت...تلفت حولي، فوجدتني في مكاني، أمام باب البناية..درت إلى حيث كان المجذوب، فلم أجده!
-أين ذهبت؟
صحت وأنا أذرع الشارع ذهاباً، وإياباً، دون أن أعثر له على أثر. حانت مني التفاتةٌ لشباك شقتي، فوجدت زوجتي وابنيّ يلوحون لي، ويقولون أشياء لم أسمعها..لوحت لهم مبتسماً، ثم أسرعت بالمغادرة. ولما كان الحصول على سيارة أجرةٍ في مدينتنا في هذا الوقت، هو ضربٌ من العبث، فقد قررت أن أذهب إلى العمل مشياً على ساقي. كنت متعجلاً، فتحولت خطواتي المتسارعة إلى هرولة، فالهرولة إلى جري ..جريت غير عابئٍ بنظرات السابلة المستغربة، ولا بأبواق السيارات، وشتائم سائقيها بينما أقطع الطريق تلو الآخر دون أن ألتفت.أخيراً وصلت إلى مقر الشركة، فتوقفت..انحنيت بينما أمسك صدري مكان القلب الذي يدق بعنفٍ حتى ظننته سيقفز من مكانه..هدأت قليلاً، ثم استويت واقفاً، ونظرت لحارس الأمن الذي كان يتأملني ببرودٍ، وحييته لاهثاً:
-صباح الخير
لم أنتظر رده، واتجهت مباشرةً لمدخل البناية، وأنا أمسح عرقي بمنديلٍ قماشيٍ كبير
-يا سيد
ناداني، فالتفت..سأل بينما يقترب مني بحذر:
-إلى أين؟
-هل أنت الحارس الجديد؟
سألته مبتسماً، فشبك ذراعيه فوق صدره، ولم يجب
-لا يهم...إلى عملي، أنا كبير المهندسين بالشركة، يبدو أنك لا تعر...
توقفت عن الكلام، وأغمضت عيني، ثم ضربت جبهتي بكفي، وقلت:
-ما أغباني!!
كان الموقف محرجاً، فحاولت مداراته بضحكةٍ مصطنعةٍ، واستطردت
-نسيت أن اليوم هو الجمعة
كان الحارس لا يزال يرمقني مستغرباً، وهو يفحصني من أعلى لأسفل، وبالعكس، ثم ثبت عينيه على قدمي، وفغر فاه، وبحركةٍ آليةٍ، نظرت أنا أيضاً لقدمي، ثم للحارس، وضحكت بصخبٍ أكبرٍ، وأنا أقول:
-انظر ما الذي يفعله الاستعجال! نسيت انتعال حذائي!
في الأيام التي تلت هذا الحادث، لم أغادر منزلي، قدمت طلب إجازةٍ بتوصيةٍ من زوجتي، وحملته بنفسها إلى الشركة، لابد وأن الحارس قد أخبر الجميع بما حدث، وسأصبح مثار سخريةٍ لزملائي، ومضغةً في أفواههم، ولم لا، والكثير منهم يكن لي حقداً كبيراً، بعد أن تجاوزتهم في الترقية، فأصبحوا مرؤوسين لي. أنا أصغرهم، وأقلهم في عدد سنين العمل! أحبني صاحب الشركة لأنني كنت دائماً الأقرب له، والأكثر حرصاً على صالح العمل، والوحيد الذي ينفذ كل ما يأمر به دون مناقشةٍ، ولا مراجعة. ولا أستطيع أن أنكر أياديه البيضاء علي، فبفضله، اشتريت رضا زوجتي كثيرة التذمر من ضيق الحال، وشظف المعيشة، والمهمومة دائماً وأبداً، بمستقبل ابنينا المظلم في ظل وضعنا المادي التعيس. قالت زوجتي أنه من الأفضل أن أرتاح قليلاً من مشاكل العمل، وأتفرغ لأسرتي التي أهملتها كثيراً، وافقتها، ووجدتها فرصةً سانحةً لاستعادة شغفي القديم بالمطالعة. أنزلت الصناديق التي تكدست بالكتب من فوق خزانة الملابس..فرزتها، ونفضت عنها التراب، وبدأت أقلب في أوراقها..لفت نظري ورقة جريدةٍ صفراء تبرز من بين ثنايا إحدى المجلات، فجذبتها..كان ثمة صورةٌ لشابٍ حليقٍ يقف وراء القضبان، زائغ النظرات ينظر بذهولٍ نحو منصة القضاء، وفوق الصورة كتب بخطٍ سميك:
الحكم على كبير مهندسي شركة- اسم الشركة غير واضح- بالسجن لمدة عشر سنواتٍ بتهمة الغش في مواد البناء
مات الضمير!
قلت بأسفٍ، بينما أهز رأسي بأسى، ونحيت الورقة جانباً، وقمت...اتجهت للشباك، وفتحته، وكان المجذوب في مكانه المعتاد، يرمق الشباك وكأنه كان يعلم أنني سأطل منه! خيل لي أنه يبتسم، فابتسمت..لوح لي بعصاه، فلوحت بيدي مبتهجاً
-ما الأمر؟
فوجئت بزوجتي تطل من الشباك، وهي تحمل كأس ماءٍ، وحبة دواءٍ بيضاء اسطوانية الشكل
-أبداً، كنت ألوح للمجذوب هناك
عادت زوجتي لتطل من جديدٍ، قبل أن تبتسم قائلةً وهي تمد لي الكأس، وحبة الدواء:
-حسناً، اشرب دواءك
-أي دواء!
سألت مستغرباً، فقالت:
-اااه، دواء ال...الحموضة
-لكنني لا أعاني من الحموضة!
زفرت زوجتي، وقالت:
-هي للوقاية، ستعاودك آلام المعدة إن أنت لم تتناول دواءك بانتظام
لم أكن أرغب في الجدال، فتناولت الحبة وألقيتها في فمي، وشربت وراءها القليل من الماء
-بالشفاء
قالت، ثم غادرت الغرفة، وعدت أنا للشارع، وكان المجذوب قد اختفى! قررت أن أخرج لأبحث عنه.. اتجهت ناحية باب الغرفة، وجذبته، لكنه لم ينفتح! كررت المحاولة بعنفٍ أكبر، بلا فائدة!
ما الذي يحدث!!
قلت، وأنا أطرق الباب بقبضتي، وأنادي على زوجتي وأبنائي..انفتح الباب، ودخل ثلاثتهم مهرولين
-لم أغلقت الباب علي بالمفتاح؟
سألتها بحدةٍ، فتبادل ثلاثتهم نظرةً حائرةً، وقالت زوجتي:
لم يكن مغلقاً
-كيف!
صحت بدهشة
-حاولت أن أفتحه، لكنه لم يستجب! كان مغلقاً بالمفتاح...انا متأكد
أمسكت زوجتي بذراعي، وقادتني للفراش وهي تقول بنبرةٍ مشفقة:
-أعصابك ليست على ما يرام، حاول أن ترتاح قليلاً
كان ابنيّ عند الباب يرمقانني بحزنٍ، لم أدر ما معناه! حاولت أن أعترض، بيد أن نعاساً مفاجأً داهمني، فتمددت على الفراش، وأرخيت جفوني مستسلماً لغيبوبةٍ صغيرة. استيقظت مساءً، وكان الظلام حالكاً، تحسست جسد زوجتي التي علا شخيرها، ورفعت الغطاء عن جسدي، وتسللت إلى حيث الشباك. فتحته قليلاً، ونظرت للمجذوب الذي جلس القرفصاء في مكانه المعتاد، مولياً وجهه شطر الشباك..بدا في حالة ولهٍ، وهو يهز رأسه، ويحرك شفتيه ويرسم بعصاه دوائر وخطوط بلا معنى! أحكمت غلق الشباك، وعدت للنوم، غير أن صورة المجذوب لم تغادر خيالي، ظلت تطاردني في الصحو والمنام، ولأيامٍ طويلةٍ، بعد اختفائه، حتى انني صرت أرى انعكاسه الطاغي كلما نظرت في المرآة! انقضت أيام الإجازة، فجددتها بطلبٍ من زوجتي، في الحقيقة، كنت سأجددها حتى إذا لم تطلب هي ذلك، فالكسل الذي بدأ يدب في جسدي، وحاجتي الدائمة للنوم، وذلك الدوار الذي أصبح يلازمني ليل نهار، جعلاني ألازم فراشي طوال الوقت، غير قادرٍ على الحركة. حتى أنني ضبطت نفسي مبتلاً عدة مراتٍ بالبول، لكنني لم أهتم...حتى تلك النظرات المشفقة، والدموع الغزيرة التي لا يكف ابني عن ذرفها كلما رأياني، لم تعد تعنيني، ولم أعد للسؤال عن معناها، أو السبب الذي يجعل زوجتي تغلق باب الغرفة بالمفتاح كلما غادرت المنزل، ولا تجمع عائلتي وعائلتها كل يومٍ في منزلي، وبشكلٍ كان يبعث على الريبة في البداية، ثم اعتدته، فلم أعد أهتم! ما كان يشغلني حقاً...ما سيطر على تفكيري، واحتل كل خلايا عقلي هو: أين ذهب المجذوب! ولم اختفى هكذا فجأة؟! وحتى جاءت تلك الليلة...كان القمر بدراً، وكنت وحيداً في فراشي، أصارع وحشاً يريد أن يلتهم عقلي، سمعت تلك الهمسة، فنفضت الكرى عن عيوني، وقفزت من الفراش..حللت الشباك على مصراعيه، وكان هناك...
-ها قد عدت
قلت بسعادةٍ بالغةٍ، فوضع سبابته على شفتيه، فسكت بينما أهز رأسي فرحاً..أشار بعصاه، فتلفت حولي، وهمست:
-تريدني أن أنزل؟
هز رأسه أن نعم، فوقفت على الإفريز، وتمسكت جيداً باسطوانة الماء السميكة الممتدة بطول البناية، وبدأت في نزول الطوابق الثلاث بحذر، ما أن لامست قدماي أرض الشارع حتى جريت نحوه فاتحاً ذراعي، فرفع عصاه، ثم دار مشيراً لي أن أتبعه. مشى، وأنا وراءه. كانت الشوارع خاليةً تماماً، وكلانا يقطعها، تاركين المباني، إلى حيث الصحراء تمتد شاسعةً، بلا نهاية...خضنا فيها، حتى قاربنا على تبةٍ فصعد، صعدت وراءه، حتى وصلت إلى القمة، نظرت للأسفل فلم أجده..درت يميناً، ويساراً، لكن لا أثر! بدا كما لو أن الرمال قد ابتلعته، أو كأنه طار في السماء! كانت نشوةٌ قد تملكتني، فلم أهتم، صحت بمرحٍ، وأنا أقفز خفيفاً، حتى بلغت عنان السماء، وسلمت على النجوم..تناولت العصا، التي خلفها المجذوب وراءه..رسمت دوائر وخطوط بلا معنى، شعرت بفرحٍ طاغٍ بينما أجري، مقتحماً قلب الصحراء، وعلى جسدي هلاهيل تكشف أكثر مما تخفي، لكنني لم أشعر بالبرد..حانت مني التفاتةٌ للخلف، فرأيت أضواء المدينة تخبو كنجومٍ ذاوية، بينما معالمها تبتعد...وتبتعد...وتبتعد.

عن مجلة الثقافة العربية أزمان هاشم

مجلة الثقافة العربية - مجلة أدبية -شاملة - - نهتم بكافة النصوص الأدبية سواء كانت شعر أو نثر أو قصة أو مقال إلخ -- نمد إيدينا لنشر جمال اللغة العربية لغة الضاد ومساعدة المواهب الأدبية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبادة الفيشاوي
»
السابق
رسالة أقدم
«
التالي
رسالة أحدث
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد

close
Banner iklan disini