ما بين ارتعاش جسدها النحيل من ثقل ما تحمل، وفحيح أنفاسها اللاهثة، لايزال الصغير يمسك بيده المتسخة طرف جلبابها الفضفاض، يقضم قطعة من الخبز، وبينما هو يحاول أن يسير مسرعاً يريد اللحاق بخطواتها العجلى تتساقط منه قطع صغيرة مما يأكل راح يشدّها بقوة، حين تناهى إلى سمعه صوت يحمل نغمة شجية. توقف لبرهة وهي تسير ، سار هو ناحية الرجل الذي يصدر منه الصوت، التفتت خلفها؛ فلم تجده. قطعت الشارع بسرعة، ودارت برأسها يميناً، ويساراً. راحت تبحث عنه وسط الصغار الملتفين حول الرجل، وحين وجدته، ونظرت إليه بحدّة، أطرق برأسه إلى الأرض، أحنت رأسها ناحيتة، وأطلقت همهمات غير مفهومة، امتعض وجه الطفل، وراح يصرخ، ويضرب الأرض بقدميه، ثم ازداد التصاقاً بها، يمسح دموعه، ويكتم صرخاته بذيل جلبابها المتسخ. أنزلت ما كانت تحمل على الأرض، ووضعت يدها داخل الجلباب وأخرجت نقوداً أعطتها للرجل، وابتاعت له واحدة.
قفز الولد من شدة الفرح، وراح يعزف كما يفعل الرجل؛ فجاء الصوت مخنوقاً. أعاد الولد العزف فجاء الصوت هزيلاً وغير منتظم قلبها الولد، وعدّلها حتى أعيته الحيل، ولم تصدر الصوت الذي اعتاد عليه. حزن مرة أخرى، وصرخ، وأراد أن يعود للرجل، ولكنها نهرته، وهزته ناحيتها بعنف؛ فكفّ رغماً عنه عن البكاء وقرر أن يعيد المحاولة في البيت، وبينما هما يخترقان الشارع بقي الصوت حياً يتسرب من بين المارة ليصل إلى أسماعهم ....