فرقٌ كبيرٌ بينَ من يُقبِل على حَياة وبينَ مَن يُقبِل على موت، وتلك هي قشةٌ قصَمت ظهرَ البعير كما يقولون. سؤالٌ حيّر ذات الإنسان وأخرس قلمه وازدادت خصومته مع ضميرٍ أشبه بظلٍّ خفي لا يحتاج إلى إشراقةِ شمسٍ لكي يرى. إنّما النورٍ يخترقُ طلاسمَ الوجود يَحلّ عقدةَ لسانِ صاحبهِ، ويثير حميته؛ فاللسانُ ترجمانُ إحساسٍ غير مأمون، وعارضُ خواطر لا يعرفُ المقابر ما لم يُجِدْ نطقَ الحروف، ويفهَم معاني الصروف وعليه أن يَحذرَ من سحرِ البيانِ والتوريةِ في المَعاني واختلاطِ الزمان بالمكانِ؛ فإنَّ للقلب عيون وللفكرِ إطارٌ ومضمون، وكَم من سامعٍ ليس بسامع وناظرٍ قصير الطرفِ لا قاصر، لا يَرى من السماء سِوى زرقتها ولا من الأرضِ غير بسطتها.
أرادَ أن يعرف ما يفكر به الآن وقد قادته نفسه ليسأل ذلك الشيخ العجوز: أليست الابتسامة عنوان البهجة في الحياة؟ فلماذا غابت عن وجوهكم يا شيخ؟ هل لأنَّكم مقبلون على الموت؟ وقد أحزنكم الغيابُ عن الأحبةِ والأهلِ وما يحيط بكم من شوارع كنست آثار أقدامكم ولم يبقَ لكم من السنين غير الأنين ، أجابه ذلك الشيخ ساخراً: الابتسامةُ بحاجةٍ الى أسنانٍ بيضاء.
أما ذلك الشيخ الذي كان ينظر إلى موجات الماء وهي تداعب مخالبَ الريحِ مودعةً إياها على شاطئ النهر؛ فكانت إجابتهُ: لولا الرياح التي هزهزتنا، ما كثرت وتنوعت تلك التجاعيد على وجوهنا التي تشبه تماما موجات ذلك النهر.
لفتَ نظرهُ ذاك المقهى الذي يتوسط مركز المدينة، المميز بزبائنه المتقاعدين، وقبل أن يتخذ له مقعدا فيها، استباحت مسامعه قهقهاتٌ تشبه رعدا وبرقا ينذر الغيوم باحتباس المطر، اختار زاوية كي يمعن النظر بأكثر الوجوه، لعلّه يقرأ آثار ما افترسته ذئاب الزمن، لا تستطيع أن تقيس فوارق العمر بينهم لا من الرؤوس التي خلت من الشعور ولا من الشعور التي خلت من السواد. يشتمون زمنهم هذا ويستعيدون ذكريات ماضٍ تولّى، يتحدثون عن قصص الحبِّ، والحرب، حصان طروادة ، روميو وجوليت، ثورة العبيد، غاندي، تولستوي، كونفشيوس، وأبو زيد الهلالي، ليبراليون ومتأسلمون، يرسمون خططا لمعالجة الفساد، يبنون من السحب ناطحات ومن الخيال زاجرات وقبل أن يغادروا يطيحون بكل الحكومات، التفت إليه أحدهم وكان على مقربة منه لا يتكلم معهم، ولا يشاركهم الحديث إلا بعينيه الذابلتين قائلاً له: أراك حديث عهدٍ؛ فهل تقاعدت قبل الكهولة يا رجل؟ لا يغرنَّك حديث هؤلاء؛ فهم يبنون الحياة بقطع من ثلج وما إن تشرقَ الشمس يذوب كل شيء والغريب في الأمر، أنهم لم يفهموا الدرس لحد الآن، ذكَّرتهم بأن " السيفُ أصدقُ أنباءً من الكُتب "، هزّوا لي برؤوسهم ولم يصمتوا، أعادوا قراءة الكتب مرة أخرى.
ردَّ عليه ذلك الشاب: ولكنّي أراهم وكأنهم مقبلون على الحياة لا مدبرون عنها، من أين جاؤوا بكل هذا الأمل؟
أجابه الشيخ: الفرق ما بيننا والآخر هو أنه يرى أن لا حياة أمامه سوى التي يعيش، ولا بدَّ له أن يعيشها بكل ما فيها، وعندما تدقُّ نواقيس الرحيل يشعر بنهايته، فما أكثر الأرصفة التي شهدت على موتهم وهم يستعجلونه قبل الأوان، أما نحن فعلى العكس تماما نرى في الموت ولوجا الى حياة أخرى ما بعدها حياة، أليس الفرقُ كبيرٌ بين من يبني لك حياةً مقبلة لا حياةً آفلة ؟