ها هي ذي تترجل بهدوء من الحافلة"..هكذا حدث ذاته، وهو يتابعها بعينيه السوداويين تترك مقعدها المجاور للنافذة وتسير بخطوات رزينة على الشارع الإسفلتي.
عاودت الحافلة تحركها، تنهد عميقاً وهو يشاهدها تختفي في أحد الأزقة وتغيب عن أنظاره. ثمة كتاب بغلاف أسود كان يحمله بين يديه، فتح صفحة جديدة، حاول قراءة بضعة أسطر لكنه لم يستطع.
كان ذهنه مشتتاً وقسمات وجهها الرصين بكل غموضه ينبعث من بين الكلمات، أغمض عينيه وارجع رأسه للوراء، فكر في نفسه:-
- "إنها أحلام وأماني العشق المستحيل تستدرجني للوقوع في متاهاتها مجدداً"..تأمل من خلال نافذة المغبرة شوارع العاصمة المكسوة بجدران أسمنتية صماء، تغطيها قوائم الناخبين والعلامات التجارية.
تذكر عصر ذات يوم بعيد مغطى بهزائمه الأبدية وقد تجرع فيه مع دوي حاملات جبارة كانت تدك أسوار عاصمة آيلة لسقوطها بقايا لـ.."غصة" عشق مكبوت لفتاة شقراء بشرتها بيضاء مشوبة بحبات نمش، تركته دون أدنى رحمة أو لحظة أسف، يتخبط بدماء عشقه لا غير.
أخذت الحافلة تسير بصعوبة وسط الزحام، نظر إلى قطع الغيوم المتشكلة في السماء وكأنها قطع من القطن ناصع البياض.
عاودته مرة أخرى صورة فتاة الحافلة جالسة بجانب نافذة ومنشغلة بمطالعة كتاب ما كعادتها حتى إذا وصلت لنهاية طريقها، نادت الجابي بكلمتين:-
- المحطة القادمة.
يا له من صوت ساحر يجمع بين الرقة وغرور العالم، كانت قد سحرته ذات مرة وهو يتنبه لوجودها بنظرتها الساكنة وكأنها تطفو فوق مشاكل الوطن المستعصية.
حدد مكان صعودها..والوقت التقريب لصعودها..ونزولها..كان يتهيب محادثتها بكل جدار الصمت المحيط بها. كانت الحافلة لا تزال حاشرة في زحامها الخانق أمام نقطة تفتيش عسكرية تستعمل جهاز سكنر يدوي كاشف متفجرات يجري التفتيش به ببطء سلحفاة عجوز.
غاص مجدداً بذكرياته القديمة المتشابهة الفصول والنهايات، دون أمجاداً تذكر، ليس سوى الدم والدموع.
في يومه التالي...
رآها تسير بخطواتها الناعمة والمتسلطة والواثقة ذاتها، وكأنها الوحيدة التي كانت تسير هكذا من بين نساء العالم، وعند موقف الحافلة أخذت تنتظر، كانت ترتدي تنورة زرقاء داكنة طويلة، مع قميص نيلي وسترة رصاصية، وشعرها مغطى بحجاب أبيض.
توقف حافلة بطابقين، أرتقتها بهدوء متقن، تابعها بدوره واتخذ مقعده بموازاتها، تطلع إليها بطرف خفي، وجهها فتياً وفاتناً أكثر مما كان يعتقد، عيناها لوزيتان مخضبتان بلون الكستناء، تنبه لوجود بطاقة صحافة معلقة على سترتها. سحب نفساً عميقاً وشجع نفسه قائلاً "سأحدثها":-
- عفواً..حضرتك صحفية..؟.
تطلعت نحوه بنظرة مستطلعة، وحركت رأسها بالإيجاب، وأضافت بصوتها الساحر الواثق:-
- هل من خدمة استطيع تقديمها..؟.
ابتسم وقال بخجل:-
- يعني..الصحافة كلمة لها سحرها الخاص بين الناس.
- وأنت ما رأيك بها.
حرك عينيه السوداويين
- ما بين..وبين.
ابتسمت لعبارته التي بدت غير واضحة البتة، فسألته مستفسرة:-
- كيف ذلك..؟.
رد وهو يحرك بيديه موضحاً:-
- صحفيو الوطن بالغالب باتوا منقسمين على أجندة ضيقة.
ردت باستغراب:-
- نظرتك فيها الكثير من التجني.
أحس بأنه أطلق العنان لأرائه أكثر من اللازم، فتابع ضاحكاً:-
- ربما بالغت بعض الشيء، ولكني للأسف لا أحب أحاديث السياسة باستثناء الأدب فهو يجذبني للقراءة.
افتر ثغرها عن ابتسامة عريضة:-
- أول مرة ألتقي بعراقي لا يحب الحديث بالمواضيع "السياسية" صمتت للحظة وأضافت "والطائفية".
شعر بنوع من الخجل والغرابة.
- أصدقائي يقولون أني أعيش في عالم خيالي.
تفحصته بنظرة صامتة، وسألته:-
- وأنت ماذا تعمل..؟.
أجاب بضحكة صغيرة:-
- دودة كتب.
أثارها جوابه فضحكت بصوت خافت وهي تغطي فمها براحة يدها اليمنى، ثم أخذت تنظر للطريق وساعتها، قالت:-
- سأنزل بالمحطة القادمة.
- أعرف ذلك.
جفلت من ملاحظته وحدقت فيه بنظرة استفهام وتعجب، وبادلها هو نظرة متوسلة وقد فضحته عيناه:-
- منذ شهرين انتظر هذه اللحظة، وتذهبين دون أن تتركي لي خيطاً أهتدي به إليكِ.
ظلت للحظة مندهشة ثم قالت:-
- أنا أؤمن بالقدر وتدابيره، لندع كل شيء للأيام تقول كلمتها.
وفيما هي تغادر الحافلة، أدارت رأسها نحوه وقالت:-
- أتمنى لقاءك مجدداً، على الأقل لأغير نظرتك المتجنية للصحافة.
تابعها وهي تغيب عن ناظريه بين الأزقة، أرجع رأسه للخلف وشعر بارتياح وسعادة كبيرين، قال محدثاً نفسه:-
- "وأخيراً سأضع النقاط على الحروف".
في الصباح وفيما هو ينتظرها بموقف الحافلة السعيد ويتطلع لساعته بين الفينة والأخرى، كان قد صحا في وقت مبكر، وقد رتب هندامه بتأن.
ومرت الثانية عقب الثانية، والدقيقة خلف الدقيقة, والساعة وراء الساعة، واليوم خلف اليوم، دون أن تأتي أو يراها مرة أخرى.
تمشى في المكان الذي اعتادت النزول فيه، وتنقل من دار صحيفة لأخرى، وهو يثير ارتياب موظفي الاستعلامات بوجهه النحيل الأسمر وأسئلته المحيرة عن فتاة لم يلتقوا بها يوماً، حتى أخبره حارس صحيفة أهليه كان عجوزاً على نحو مثير للرثاء:-
- امرأة كهذه لا وجود لها إلا في أحلام اليقظة.
فرد وهو يبتسم بمرارة:-
- وأنا شخص لم يحقق أحلامه بالحب يوماً.
في ساعة متأخرة ليلاً كان يسير كعادته وحيداً في الشوارع الخالية إلا من نقاط تفتيش عسكرية توجه أضواءها الكاشف على وجهه، ومجاميع كلاب سائبة تنبح عليه بين الفينة والأخرى، شعر بغربة أليمة، وأخذ يبكي بدموع صامتة.