– أحقاً تقرأ الكتب وأنت تقود الطائرة؟
– نعم، لعلّي أريكِ يوماً كيف أفعل ذلك!
تلمعُ عيناها عشقاً..
– مذهل! وعن أي شيء تقرأ؟
– يعني، عن عضلات الطائرة وأنظمة الهيدروليك، والطيران الشراعي، والطائرات بلا طيار…
قاطعته بلطف موضحةً سؤالها.. “أعني كتباً في غير هذا المجال.. في الحب مثلاً”
– بالتأكيد، قرأتُ طارَ مع الريح..
تحاول أن تكتم ضحكتها، “تقصد ذهب مع الريح؟”
– بلا شك، كنت أمازحك..
وانفجر الاثنان يقهقهان ثلثاً من الطرفة، وثلثين من غمرة العشق..
وخفيف الظل كذلك! يهمس إليها قلبها.. ثم يصدح “إنه هو..” هو الذي طال البحث عنه..
لم يمضِ الكثير من الوقت لتبدأ بينهما لعبة التناغم.. حتى استحال هذا التناغم انسجاماً تاماً.. وسارت الأمور بخفة نحو الزواج..
في غضون تلك الأيام قرر أن يُطلعها على خصلةٍ جديدة يمتازُ بها.. الرومانسية مثلاً.. فكتب إليها في نهار العيد رسالة تحوي كلمة واحدة.. لأن خير الكلام ما قلّ ودل..
فتحتها بشوق يسابق كفيها إلى المضمون.. لتقرأ في وسط الصفحة
“أحبكي”
لطالما آمنت بأنّ كثرة القراءة تعني بالضرورة ندرة الأخطاء الإملائية.. البديهية منها خاصة.. تعتريها الخيبة وتحدثّ نفسها.. ليته كسرَ الكاف ولم يكسر قلبي.. هل كان يكذب؟ هل حقاً يقرأ وهو يقود الطائرة؟
كتبت إليه بعد يوم.. سؤالاً لغير الاستفهام.. تُنفّس عن حزنها فحسب..
“لماذا عكفتَ الكاف؟ لماذا؟”
لكن الخيبة تأصلت في نفسها حين وصلها ردٌ منه يقول فيه
“لم أفهم قصدكي!”
تصبح الآن حاجتها للراحة ضرورية.. والهجر لبعض الوقت دواء.. تطمرُ نفسها بأشغال الحياة لكي تخطفها من وطأة التفكير..
شهور قليلة وتصلها رسالة أخرى يقول فيها..
“أجيبيني أرجوكي!”
دون جدوى.. تمر شهور أخرى ببطء شديد.. فلا يملك سوى أن يطلب منها شيئاً عبر رسالته..
“اخرجي اليوم في الساعة الرابعة عصراً.. وشاهدي السماء”
بعد صراع طويل داخلها تخرج لتجده يتجول في الأفق مستعرضاً عضلات طائرته.. وصوت محركها الذي لطالما قضى ساعاتٍ يشرح لها آلية عمله.. ومن ذيلها يخرج دخانٌ أبيض.. يخطّ في عرض السماء..
“اشتقت إليكي”
“كفى.. كفى.. أرجوك توقف عن كل هذا.. انتهى كل شيء بيننا”
انتهى كل شيء بهذا السطر.. وتوارى الحب في غياهب الزمان.. كأي حب يُكسر أو يعكف.. ويخبو وهجه لسبب أو لغير سبب.. هكذا هي بعض القناعات.. تشبه الأخطاء الإملائية.. كلاهما يقف في وجه المعنى ويحول دون فهمه..
تمر عشر سنوات.. جرس الحصة يقرع معلناً نهاية الدوام.. يسابقها تلاميذها إلى خارج الفصل.. بين ذراعيها تحمل كتاب اللغة العربية للصف الخامس الابتدائي بينما تتجه إلى مكتبها.. هناك تتربع رسالة مكتوبٌ فيها..
“الآن فهمتُ قصدكِ..”