» » أبو قندرة- بقلم - أحمد جلال صالح


جاء من المدينة البعيدة, البعيدة جغرافيا وثقافيا, وافتتح في البلدة دكانا لتصليح الأحذية..

عرض عليه بعض أهل البلدة أن يعمل في حقل, لأنه كان بعضلات مفتولة وقوام فارع الطول, عرض عليه آخر أن يشتغل بالنجارة.. وثالث بالبناء.. ولكنه أبى إلا هذه المهنة الوضيعة.

هكذا هم أبناء تلك المدينة, لا همّ لهم سوى المال, ولتذهب الكرامة والرجولة إلى الجحيم..
 كان فقيرا معدما أول مجيئه, وأذكر أننا سألناه في اليوم الأول: أبو من؟
فردّ بأنه ليس متزوجا, رغم أن سنّه تعدت الثلاثين.

كان اسمه مهند, وهذا الاسم ليس كاف ليعرّف حامله, فكانت مفردة (الاسكافي) هي القرينة التي ميزته عن غيره من المهندين الكثيرين في البلدة.

 من العادة في بلدتنا أن ينادى الرجل بكنيته, وجرى على الألسن حين نخاطب رجلا أن نقول له (أبو فلان), أذكر أن مهند الاسكافي مر أمامنا عائدا إلى بيته, سلم علينا فرددنا عليه ب عليكم السلام, وزاد أحدنا بقوله هلا ب أبو... قالها عن غير قصد فوجمنا مبتسمين, فلم يجد بدا من أكمالها, صمت قليلا وكان الاسكافي حين مرّ يحمل قندرة بيده, قال الرجل هلا ب أبو...... ابو قندرة, فرحنا نتمرغ بالأرض من شدة الضحك, ومن يومها صار لمهند الاسكافي اسما جديدا يعرف به ( ابو قندرة )

خلال فترة قصيرة تحسنت حاله كثيرا, وذات إياب من استراحة في مدينته, فاجأنا وهو يجلب معه زوجة أجمل من كل نسائنا, البيت الذي كان يستأجره في بلدتنا تمكن من شرائه, بل وأصلح جدرانه وطلاها بلون زاه, سيارة فارهة تمكن من شرائها أيضا... كل هذا حدث خلال بضع سنين من قدومه إلى البلدة وعمله في المهنة هذه.

حين وجد (أبو قندرة) بعد مجيئه  بأيام أن البلدة هذه بعيدة وأن أهلها لا يسافرون إلى المدينة إلا قليلا, حدّد أجرة تصليح الحذاء الواحد بمائتين وخمسين دينارا, وكان إذا احتج أحدهم بأن سعر الحذاء كله هو خمسمائة دينار, رد عليه ابو قندرة: اذهب إلى سوق المدينة ولا تشتري حذاء جديدا بخمسمائة دينار, بل أصلح القديم بخمس وعشرين فقط.

طرقات البلدة لم تكن معبدة, سرعان ما يتمزق الحذاء فليجأ صاحبه إلى تصليحه, والسكان عشرات الآلاف, وكلهم يأنفون عملا خسيسا كهذا, لذا من الطبيعي أن يبقى الحذاء عند ( أبو قندرة ) لعدة أيام كي يجد وقتا لإصلاحه, ومن الطبيعي أيضا أن يردّ ابو قندرة على الزبائن قائلا: ما عندي وقت.
وربما قطّب في وجوههم, وربما لم يرد على بعضهم, وربما أغلق محله والناس تقف في طابور أمامه..

الوقت يمضي و( أبو قندرة) يزداد ثراء, ولكنه يبقى وضيعا بأعيننا ولو بلغ ماله ما ملك قارون, المشكلة أنه سعيد بحياته على ما يبدو لنا, وأن زوجته سعيدة به وتعده رجلا كامل الرجولة. رزق بابنة واختار لها اسما لم يعرفه أحد من أطفال القرية, لم يكن اسمها عند أطفالنا سوى ( قندرة ) ذهبت قندرة بنت (ابو قندرة), جاءت قندرة بكيت قندرة ركضت قندرة...

رزق أيضا بولد فكان اسمه عندنا ( نعل ) , مرت سنين أخرى, وأبو قندرة يزداد ثراء وينجب المزيد من القنادر والنعال, لم يترك محله رغم أنه أثرى ثراء فاحشا, بل وغدت له علاقات بكبار التجار والمسئولين في مدينته, ولكنه يبقى عندنا ( ابو قندرة) ليس أكثر...

ذات صباح, دهشنا بهذا الوضيع وهو يتجول في طرقات البلدة برفقة حماية, اووووه قائمقام ! هذا هو المنصب الذي تقلده (أبو قندرة)..

كان هذا الأمر مفاجأة كبيرة لنا, لكنها أبدا ليست أكبر من مفاجأتنا به وهو يتعامل معنا على نحو يخلو تماما من الحقد والانتقام من استحقارنا القديم له, يسألنا عن مشاكلنا, يستقبل شكاوينا, ويحرص على إظهار اهتمامه واحترامه, فقط المسيئين منا كان يأمر حمايته باقتيادهم إلى القائمقامية, وهناك ينزع قندرته ويضرب بها على رؤوسهم.

عن مجلة الثقافة العربية أزمان هاشم

مجلة الثقافة العربية - مجلة أدبية -شاملة - - نهتم بكافة النصوص الأدبية سواء كانت شعر أو نثر أو قصة أو مقال إلخ -- نمد إيدينا لنشر جمال اللغة العربية لغة الضاد ومساعدة المواهب الأدبية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبادة الفيشاوي
»
السابق
رسالة أقدم
«
التالي
رسالة أحدث
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد

close
Banner iklan disini