» » قراءة في القصة القصيرة- في بيتنا ضابط /بقلم الناقد محسن الطوخي للأديبة/ نهلاء توفيق



نص جميل. تبدو الحرفية والبراعة في الترابط بين الجزئيات, وفي التطور الرأسي للأحداث, والسرد بضمير المتكلم جاء مناسباً تماماً لطبيعة التجربة القصصية, إذ مكن الكاتبة من كشف خبيئة الشخصية ورصد خصائصها النفسية.
مظاهر براعة الحبكة, والتضمين: .
" " وأنا أؤدي تلك الرياضة الليلية على سريره " ..
عبارة موحية تكشف موقف الزوجة إجمالا من علاقة افتقدت التجانس والمودة. وهي بمثابة تتمة, وتتويجاً للجملة الاستهلالية التى تبدأ بوصف الراوية ذاتها بالجندية, وتنتهي مساء في براثن الزوج.
ووصف الجندية يحيل إلى صورة المقاتل الذي يضطلع بمهام جسيمة لا تنتهي, ومسؤوليات لا فكاك منها ولا سبيل إلى التنصل منها إلا بالتعرض للعقاب.
تنتهي الجملة الاستهلالية بحضن الزوج على سبيل الإجمال والتمهيد, ثم تأتي الجملة المعنية لتؤهل القارىء لطبيعة التجربة القصصية الصادمة. فالجندي الذي ينفق النهار في الأعمال الشاقة المجهدة, قد يجد السلوي في ضروب التسلية والترفيه إذا جن المساء. فتأمل الراوية في عبارتها الموحية. " وأنا أؤدي تلك الرياضة الليلية على سريره " .. ثلاث عناصر لفظية حشدتها الكاتبة البارعة في العبارة الدالة الموجزة..
- " " أؤدي " .. فالأداء هو القيام بالواجب, وإنجازه .. وهو تسديد أو دفع ماهو واجب ومستحق.
فالفعل في العبارة يوحي بطبيعة العلاقة الغفل من العاطفة, وطبيعة الرجل الذي يمارس العلاقة الحميمة كنوع من استيفاء حق مشروع , وتوحي بأن العلاقة ذاتها تؤديها الراوية باعتبارها أحد الأعباء المتعددة التى يشملها وصف الجندية. وهو ما سوف يتأكد في بقية لعناصر اللفظية .
" الرياضة الليلية " .. والرياضة هي المصدر من الفعل " راضَ " , وهي النشاط البدني المحكوم بقواعد, وهي تطويع النفس لتقبل الفروض. فوصف الأداء الليلي بالرياضة يحصره في النشاط العضلي دون النفسي الوجداني. وهو مايفسر قبول الراوية لاستمرار العلاقة في ظل افتقاد المشاركة, وغياب المتعة, فالرياضة هنا ألى جانب وسمها للأمر بالمشقة, تؤكد على ممارسة الراوية لنوع من تطويع النفس على تقبل الأمر الواقع, وخو ماسوف نلمسه في تفاصيل السرد .
" سريره " .. يأتي ضمير الملكية في اللفظ مؤكداً صفة انتفاء المشاركة, فهو ليس سريرها, وليس سريرهما. بل هو سريره, يمارس فيه متعته الخاصة , ويتقاضي حق معلوم يعتقد بعقلية الرجل الأحمق أن لديه صكاً يتيح له أن يقضي وطره كحاجة بيولوجية, دون اعتبار لقيمة المشاركة, والتفاعل.
والعبارة بقوة التضمين التى وفرتها الألفاظ الدالة جاءت كافية, ومانعة, تجعل من الجملة اللاحقة غير ذات جدوى أو منفعة, اللهم إلا إفساد الأثر الفني الممتع للعبارة الدالة. ربما سعت صديقتي أمنية إلى تأكيد ما تصورت أنه لن يرسخ في ذهن المتلقي, وأنا أقول أن العبارة كانت من القوة والبراعة بحيث لم تكن في حاجة إلى تأكيد.
" يخرج ضارباً الباب ولقمته في فمه وهو يتوعد ويهلهل، أتبعه ب: أوووف، سيارة الدائرة عند الباب ومعدتي خاوية" ...
. انظر إلى المقابلة في المعني بين " ولقمته في فمه " , وبين " معدتي خاوية
فالزوج إلى جانب خشونة طباعه وقسوته, لا بأبه إلا لاحتياجاته الخاصة . دون النظر إلى مطالب سواه, والمقابلة السابقة برعت في تأصيل المعنى إيحاء وإضماراً دون الخوض في تفصيلات ترهق السرد .
الجملة الختامية التي صيغت على هيئة سؤال , أراها بدورها دالة على براعة التضمين , فهي في ظاهرها تأكيد لوجود الأهل والعائلة, بينما في جوهرها نفي لذلك الوجود . فهو من ناحية تساؤل ينطوي على الدهشة, وكأن علم الأهل وتواصلهم لا يعد من الأمور المتوقعة, والمحسوية , وهو يدلل من ناحية أخرى على أن الراوية لم تقم بالاتصال بالأهل, أو لم يكن في نيتها. وهو مايؤكد ماساقته الكاتبة في مداخلاتها من غياب الدور الفاعل للأهل في تقويم المعوج من أمور العلاقة الزوجية. بل وسلبية هذا الدور في تبني ثقافة تفرض على المرأة أن تتحمل مالا يطيقه بشر من أجل المحافظة على البيت والأبناء.
نص جميل , يكشف براعة ومهارة صديقتي نهلاء في تطويع النص القصير لطرح تجربة إنسانية بحنكة, ومهارة, وقدرتها على منح شخصياتها القصصية حياة متدفقة, وحيوية.
تحياتي وتقديري لإبداعك نهلاء
________
النص "
في بيتنا ضابط
جنديةٌ أنا منذُ أن أفيق صباحاً؛ حتى حضن زوجي عند المساء.
"هل يُعقل هذا؟ ألم تكوني تلك القطة الوديعة وماما تُمسد لك على شعرك حتى تحلمي بالورد والطيور؟"... أحدث نفسي كلّ يوم بهذا وأنا أؤدي تلك الرياضة الليلية على سريره.."
"لن أقول سريرنا، إنه سريره هو..هو"..أؤكد لنفسي دائما.
الجندية تفيق مبكراً، فالواجبات كثيرة؛ إبتداءً من الحمّام إلى تحضير الفطور والهرولة سريعاً بالأولاد إلى مدارسهم.
"الرتبة" تأمر: تأخرت عن عملي، ألا تفهمين؟ ألا تعين؟ متى تُصبحين نشيطةً أكثر من هذا؟!
"تباً لك، كم أنت مُخزٍ ومروّع،انهمدت ثمان ساعات متواصلةً تشخرُ وأنا حتى في ساعاتي الخمس كوابيس الواجبات تلاحقني.. كم أكرهك"...هذا في سرّي.
يخرج ضارباً الباب ولقمته في فمه وهو يتوعد ويهلهل، أتبعه ب: أوووف، سيارة الدائرة عند الباب ومعدتي خاوية.
لم توافق المديرة على منحي ساعة زمنية حتى أطبخ قبل رجوعه؛ أمسُ كان قاسياً جداً فيما أخذت فروض الأولاد جلّ وقتي.
أحضرتٌ دجاجةً مشويةً بيدي؛ وجدته يجلسُ وقد احمرّت عيناه: ماهذا؟ تعرفين أني لا أحب طعام السوق...!
طارت الدجاجة فوق حاوية النفايات واستقرت فيها؛ فيداه جعلت لها أكثر من جناحين.
كنتُ أطبخُ مرغمةً وهو يشخُر، بعدما ضبط هاتفه وألصقه بأذنه.
_مقبول، خمسة من عشرة.
_كثر خيرك.
قال لي" لم اشبع"..
"الأولاد؟ أين اذهب بهم؟!..
" هذا شغلك وليست مسؤوليتي"..
"أنا لن أوصد الباب، صاروا يفهمون".
زمجر: وأين أذهب أنا؟ هه؟ ردي...طيب، سأبحث عن... وأخبري أهلك، حسناً؟؟
أخرجتهم إلى الشارع بعد أن ناولتهم بعض الفكة.
"الجنديّ يحتاج إلى راحةٍ سيدي، دعني أستلقي قليلا وابق أنت مع الأولاد".
"ماذا تقولين؟ لديّ موعدٌ مهم ويجب أن أخرج الآن، لا أريد رؤية أحدهم لدى رجوعي.. الكل نيام، مفهوم؟
رجع وقد كنتُ أغطُ في نومٍ عميق..منهكةٌ أنا. الأولاد يتعاركون والبيت فوضى؛ لم أنتبه حتى لدخوله.
أفقتُ وانتبهتُ عندما رمى بنا كلنا خارجاً، أوصد الباب جيداً ورفع مكبس الجرس... من أخبر أهلي أننا في الشارع!

عن مجلة الثقافة العربية أزمان هاشم

مجلة الثقافة العربية - مجلة أدبية -شاملة - - نهتم بكافة النصوص الأدبية سواء كانت شعر أو نثر أو قصة أو مقال إلخ -- نمد إيدينا لنشر جمال اللغة العربية لغة الضاد ومساعدة المواهب الأدبية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبادة الفيشاوي
»
السابق
رسالة أقدم
«
التالي
رسالة أحدث
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد

close
Banner iklan disini