» » قراءة نقدية للأستاذة زهرة خصخوصي لنص الأستاذ -كريم خلف جبر الغالبي-


النص:
ومن الخيال زاجرات

فرقٌ كبيرٌ بينَ من يُقبِل على حَياة وبينَ مَن يُقبِل على موت ، وتلك هي قشةٌ قصَمت ظهرَ البعير كما يقولون ، سؤالٌ حيّر ذات الإنسان وأخرس قلمه وازدادت خصومته مع ضمير أشبه بظلٍّ خفي لا يحتاج الى اشراقةِ شمسٍ لكي يرى إنّما لنورٍ يخترقُ طلاسمَ الوجود يَحلِل عقدةَ لسانِ صاحبهِ ، ويثير حميته فاللسانُ ترجمانُ احساسٍ غير مأمون ، وعارضُ خواطر لا يعرفُ المقابر ما لم يُجيد نطقَ الحروف ويفهَم معاني الصروف ، وعليه أن يَحذرَ من سحرِ البيان والتوريةِ في المَعان واختلاطِ الزمان بالمكان ، فإنَّ للقلب عيون وللفكرِ اطارٌ ومضمون ، وكَم من سامعٍ ليس بسامع وناظرٍ قصير الطرفِ لا قاصر ، لا يَرى من السماء سِوى زرقتها ولا من الأرضِ غير بسطتها .
أرادَ أن يعرف ما يفكر به الآن وقد قادته نفسه ليسأل ذلك الشيخ العجوز ، أليست الابتسامة عنوان البهجة في الحياة ؟ فلماذا غابت عن وجوهكم يا شيخ ؟ هل لأنَّكم مقبلون على الموت ؟ وقد احزنكم الغيابُ عن الأحبةِ والأهلِ وما يحيط بكم من شوارع كنست آثار اقدامكم ولم يبقَ لكم من السنين غير الأنين ، أجابه ذلك الشيخ ساخراً : الابتسامةُ بحاجةٍ الى أسنانٍ بيضاء .
أما ذلك الشيخ الذي كان ينظر إلى موجات الماء وهي تداعب مخالبَ الريحِ مودعةً إياها على شاطئ النهر ، فكانت اجابتهُ : لولا الرياح التي هزهزتنا ما كثرت وتنوعت تلك التجاعيد على وجوهنا التي تشبه تماما موجات ذلك النهر .
لفتَت نظرهُ تلك المقهى التي تتوسط مركز المدينة ، مميزة بزبائنها المتقاعدين ، وقبل أن يتخذ له مقعدا فيها ، استباحت مسامعه قهقهاتٌ تشبه رعدا وبرقا ينذر الغيوم باحتباس المطر ، اختار زاوية كي يمعن النظر بأكثر الوجوه ، لعلّه يقرأ آثار ما افترسته ذئاب الزمن ، لا تستطيع أن تقيس فوارق العمر بينهم لا من الرؤوس التي خلت من الشعور ولا من الشعور التي خلت من السواد ، يشتمون زمنهم هذا ويستعيدون ذكريات ماضٍ تولّى ، يتحدثون عن قصص الحبِّ والحرب ، حصان طروادة ، روميو وجوليت ، ثورة العبيد ، غاندي ، تولستوي ، كونفشيوس وأبو زيد الهلالي ، ليبراليون ومتأسلمون ، يرسمون خططا لمعالجة الفساد ، يبنون من السحب ناطحات ومن الخيال زاجرات وقبل أن يغادروا يطيحون بكل الحكومات ، ألتفت إليه أحدهم وكان على مقربة منه لا يتكلم معهم ولا يشاركهم الحديث إلا بعينيه الذابلتين قائلاً له : أراك حديث عهدٍ ، فهل تقاعدت قبل الكهولة يا رجل ؟ لا يغرنَّك حديث هؤلاء ، فهم يبنون الحياة بقطع من ثلج وما أن تشرقَ الشمس يذوب كل شيء والغريب في الأمر ، إنهم لم يفهموا الدرس لحد الآن ، ذكَّرتهم بأن  السيفُ أصدقُ أنباءً من الكُتب  ، هزّوا لي برؤوسهم ولم يصمتوا ، اعادوا قراءة الكتب مرة أخرى .
ردَّ عليه ذلك الشاب : ولكنّي أراهم وكأنهم مقبلين على الحياة لا مدبرين عنها ، من أين جاءوا بكل هذا الأمل ؟
أجابه الشيخ : الفرق ما بيننا والآخر إنه يرى أن لا حياة أمامه سوى التي يعيش ، ولا بدَّ له أن يعيشها بكل ما فيها ، وعندما تدقُّ نواقيس الرحيل يشعر بنهايته ، فما أكثر الارصفة التي شهدت على موتهم وهم يستعجلونه قبل الأوان ، أما نحن فعلى العكس تماما نرى في الموت ولوجا الى حياة أخرى ما بعدها حياة .

القراءة:

إنّنا في هذه الحلقة من مجلسنا النّقديّ هذا نُلفي أنفسنا أمام نصّ انتسجه كاتبه انتساجا مخصوصا مخاتلا مستفزّا. وسأسلّط عدسة الاستقراء على أبرز مقوّمات هذا الانتساج عسى الإضافة المرتجاة تتحقّق.

/ البناء اللّغويّ العجيب:
يلج القارئ هذا النّصّ فيستقبله بناء لغويّ عجيب، تنهل عُمُده من علم البديع وعلم البيان في شعريّة سرد عذبة، يفصح عن رؤية إبداعيّة مخصوصة تعي مركزيّة النّسيج اللّغويّ في النّصّ السّرديّ وتوليه الأهمّيّة البالغة التي تليق به ليظفر القارئ بالأثر الأدبيّ الذي يستمتع في التّوقّف عنده بشراكته في العمليّة الإبداعيّة.
*توظيف البديع:
عمد الكاتب إلى السّجع الذي يخلق في النّصّ السّرديّ إيقاعا داخليّا يرتقي بالسّرد إلى عالم الشّعر الموسيقيّ فيزداد بهاءً يَميزه عن القصيد. والسّجع هو توافق أواخر فواصل الجمل. ومن ذلك نذكر قولَي الكاتب:
[وعارضُ خواطر لا يعرفُ المقابر ما لم يُجيد نطقَ الحروف ويفهَم معاني الصروف]
[فإنَّ للقلب عيون وللفكرِ اطارٌ ومضمون]
كما وظّف الكاتب في نصّه هذا نوعا آخر من السجع يسمى الترصيع وهو أن تتضمن القرينة الواحدة سجعتين أو سجعات. ومن ذلك نجد في النّصّ هذين المثالين:
[وعليه أن يَحذرَ من سحرِ البيان والتوريةِ في المَعان واختلاطِ الزمان بالمكان]
[يبنون من السحب ناطحات ومن الخيال زاجرات وقبل أن يغادروا يطيحون بكل الحكومات]
وكأنّ الكاتب عاشقُ الموسيقى النّصيّة فلم يكتف بالسّجع محسّنا بديعيّا لخلق إيقاع داخليّ لنصّه هذا بل جعل حضوره يكون في ثنائيّات تزيد النّصّ "تمَوْسقا" والإيقاع عذوبة.
كما لم يكتف بالسّجع وحده نبع إيقاع سرديّ بل عضَده بالمقابلة  وهي التّضاد بين كلمتين أو أكثر أو أن يؤتى بمعنيين أو أكثر أو جملة ثم يؤتى بما يقابل ذلك الترتيب، لتوضيح المعنى وتوكيد الفكرة وإثارة الانتباه عن طريق ذكر الشيء وضده وخلق إيقاع لفظيّ يمتع القارئ وهو يشدّه إلى النّصّ ويغريه بالإيغال في ولوج زواياه حتّى الانتهاء منها جميعا. ومن أمثلة هذا المحسّن البلاغيّ المقابلة في نصّنا هذا "ومن الخيال زاجرات" نجد:
[ فرق كبير بين من يُقبِل على حَياة وبينَ مَن يُقبِل على موت ]
[ وكَم من سامعٍ ليس بسامع ]
[  وكأنهم مقبلين على الحياة لا مدبرين عنها ]
إنّها محسّنات بديعيّة وظّفها الكاتب في نصّه السّرديّ هذا دون مبالغة أو تكلّف لتحقّق للنّصّ جماليّته الموسيقيّة وتضمن له في علاقته بالقارئ تبليغ مقاصده الدّلاليّة وهذا الشّريك في العمليّة الإبداعيّة يقع أسير حبائل الإيقاع العذب والعبارة المخاتلة التي وظّفها الكاتب في انتساج شعريّة السّرد أيضا في البناء اللّغويّ لنصّه.

شعريّة السّرد:
انتسج الكاتب كما يبدو جليّا للقارئ المتأمّل نصّه هذا شعريّة السّرد ووظّفها لبناء التّكثيف السّرديّ تارة كقوله: [كان ينظر إلى موجات الماء وهي تداعب مخالبَ الريحِ مودعةً إياها على شاطئ النهر ] في تصوير بلاغيّ لعالم نفسيّ رصين مثقل حكمة استقاها من دروب القدر المتعرجة التي خاضتها تلك الشّخصيّة "الشّيخ". أو جعلها مطيّة لتشكيل الصّورة الحقّ للوهم إذ يقول: [لا يغرنَّك حديث هؤلاء ، فهم يبنون الحياة بقطع من ثلج وما أن تشرقَ الشمس يذوب كل شيء]، أو نُلفيها شعريّة سرد تفتحنا على رمزيّة الصّورة كقول الشّخصيّة في النّصّ: [هل تقاعدت قبل الكهولة يا رجل ؟]وهي صورة رامزة إلى اقتران مفهوم العطالة عن الفعل بالتقاعد عن العمل، واقتران مفهوم السّكون بمفهوم الاستسلام لنهاية الوجود الفاعل المعطاء.
إنّها شعريّة سرد ترتقي بالوجود السّرديّ للنّصّ إلى مراتب القول البليغ وترتقي بالقارئ من مرتبة التّلقّي الخامل السّلبيّ إلى مراتب التّلقّي المتفاعل المسآل المشرّح النّصّ بحثا عن الدّرر الدّلاليّة الكامنة في أحشاء هذا التّكثيف.

/ البناء الفنّيّ المخاتل:
لئن توفّرت في هذا النّصّ مقوّمات فنّ السّرد من شخصيّات وزمكان وأحداث وحوار ووصف وصراع إلّا أنّ الكاتب قد سحب منه وهو يقدّمه لنا عمدا أو دون وعي بذلك وضع البداية منه ووضع النّهاية فبدا لنا أنّه مقطع سرديّ من قصّة قصيرة أو رواية وهو ما يرجّح قصديّة تقديمه لنا بهذا الشّكل ربّما استفزازا لملكة النّقد فينا كقرّاء نلاقي دفق القرائح في مجلس تقييميّ نقديّ.
لكن تغييب وضعي البداية والنّهاية لم يفقدا النّصّ جماليّته الفنّيّة إذ راوح الكاتب في انتقاء الشّخصيّات بين الشّابّ والشّيوخ جاعلا الشّابّ في موضع الحيرة والسّؤال باحثا عن اليقين في زمن الضّباب " وقد قادته نفسه ليسأل ذلك الشيخ العجوز، أليست الابتسامة عنوان البهجة في الحياة ؟ فلماذا غابت عن وجوهكم يا شيخ ؟ هل لأنَّكم مقبلون على الموت ؟ وقد احزنكم الغيابُ عن الأحبةِ والأهلِ وما يحيط بكم من شوارع كنست آثار اقدامكم ولم يبقَ لكم من السنين غير الأنين،" والشّيوخ في موضع الإجابة الكاشفة عن مدى إدراك أصحابها لمفهوم الحياة، شيوخ تفرّقوا بين شيخ عجوز وزمرة من المتقاعدين " لا تستطيع أن تقيس فوارق العمر بينهم لا من الرؤوس التي خلت من الشعور ولا من الشعور التي خلت من السواد ، يشتمون زمنهم هذا ويستعيدون ذكريات ماضٍ تولّى ، يتحدثون عن قصص الحبِّ والحرب ، حصان طروادة ، روميو وجوليت ، ثورة العبيد ، غاندي ، تولستوي ، كونفشيوس وأبو زيد الهلالي ، ليبراليون ومتأسلمون ، يرسمون خططا لمعالجة الفساد ، يبنون من السحب ناطحات ومن الخيال زاجرات وقبل أن يغادروا يطيحون بكل الحكومات " حتّى أنّ ذاك الشّيخ العجوز بدا أكثرهم حكمة، بلغ به الفكر أن يقول:" لا يغرنَّك حديث هؤلاء ، فهم يبنون الحياة بقطع من ثلج وما أن تشرقَ الشمس يذوب كل شيء والغريب في الأمر إنهم لم يفهموا الدرس لحد الآن ، ذكَّرتهم بأن " السيفُ أصدقُ أنباءً من الكُتب " ، هزّوا لي برؤوسهم ولم يصمتوا ، اعادوا قراءة الكتب مرة أخرى". فأنشأ الكاتب من خلال رسمه شخصيّاته صراعين: صراعا نفسيّا يكابده الشّابّ وصراعا فكريّا بين شيخ هرم خبر الزّمان وظفر بحكمة الوجود يرون "في الموت ولوجا الى حياة أخرى ما بعدها حياة"، ويعون قيمة ذاك الدّرب الطّويل الذي ضربت فيه خطاهم وتلك العواصف الهجهاجة التي كادت تذروهم خارج بوصلة الحياة، التي وصفها الكاتب على لسان الشّيخ العجوز بقوله:" لولا الرياح التي هزهزتنا ما كثرت وتنوعت تلك التجاعيد على وجوهنا التي تشبه تماما موجات ذلك النهر"،
ومتقاعدين يلجون المعابر إلى الشّيخوخة وما ظفروا بغير الشّيب ومقاعد في مقهى المتقاعدين، ناقلا بذلك إلى القارئ واقعا سائدا يفرّ فيه النّاس إلى منتهى العمر من معانقة تحدّي العجز واعتناق شريعة نحت الخلود بالخطى الفاعلة في الوجود إلى وهم الحياة بالغرق في زبد القول وسراب الأمنيات و"ما أكثر الارصفة التي شهدت على موتهم وهم يستعجلونه قبل الأوان" حسب وصف الكاتب. ولعلّ هذا الصّراع الأخير هو الذي يساعد القارئ في أن يجلو الإبهام عن عتبة النّصّ، هذا العنوان الذي يقذف بنا في لجج التّسآل منذ صدمة التّعرّف النّصّيّ.

/ العتبة تناصّ ومتاهة إيحاء:

1. من الخيال زاجرات: جملة إسميّة تقدّم فيها الخبر المركّب بالجرّ إبرازا وتنصيصا على أهمّيّته، وقد ورد المبتدأ المؤخَّر مفردة واحدة في صيغة الجمع المؤنّث السّالم "زاجرات" للمفرد منها "زاجرة"، وهي من الزجر بمعنى
المَنْعُ والنهيُ حسب لسان العرب، وقد تضمّنت هذه الجملة عبارتين  هما "الخيال" و"زاجرات" تناصّ تلازمهما مع بيت شعر لابن مقيل يتصدّر إحدى قصائده وهو الآتي:
[هلِ القَلبُ من دُهماءَ سالٍ فمُسمِحُ ، ... وَزَاجِرَة عَنهَا الخَيَالُ المُبَرّحُ ]
وإن حضرتا في النّصّين شعرا ونثرا لفظا إلّا أنّهما اختلفا توظيفا إذ بدا الخيال في البيت الشّعريّ متحدّيا الحبيبة الزّاجرة بينما اتّخذ في عتبة هذا النّصّ وظيفة الزّاجر نفسه.
وكأنّنا بالكاتب قد اتّخذ موقع النّاقد للواقع الرّاهن وأهله منذ عتبة نصّه فجعله معالقا تناصّا يكشف البون الشّاسع بين الخيال العربيّ قديما ذاك الخيال الذي يتّخذه الإنسان سلاحا للذّود عمّا يتوق إليه وجسرا لبلوغ المنى، والخيال العربيّ الحديث الذي يعقل الحلم ويأسر المنى ويطوّق التّوق إلى الفعل بحبائل العجز والرّكون ومعانقة وهم الوجود.
إنّ هذا العنوان عتبة حملت من التّكثيف ما يجعلها جامعة لنصّ قصصيّ كامل وطرح فكريّ متّسع متكامل وكأنّنا بالكاتب وهو يعرض هذا الواقع الأليم في نصّه يتحدّاه بالكتابة ذاتها فيتجاوز حدود القول النّصّي بدءا بالعنوان الذي ظلّ في المدوّنة النّقديّة لعقود مجرّد معبر للنّصّ، ومرورا بمنهج الكتابة الذي جمع بين أسس فنّ الخطابة في مدخل النّصّ وأسّ المسرح أي الحوار المعضود بالوصف المشهديّ، والقصّ المتنامي عبر تراتب الأحداث.
هكذا أحبّتنا وهبنا كاتب هذا النّصّ سردا مخاتلا يبدو جليّا أنّه قد اقتطعه من نصّ أكبر وبما أنّنا لا نعلم غائيّة هذا الاقتطاع فقد سلّطنا بعض الضّياء على ما بدا لنا مائزا من زواياه وعسانا نكون قد أوفيناه ما يليق به من عناية ووهبناكم ما يثري توقّفكم أمامه من إضافة. ولكم جميعا كاتبا ونقّادا موفور الشّكر والاتمتنان لإثراء هذه الحلقة من مجلسنا التّوّاق إلى الإسهام في المشهد الأدبيّ الواقعيّ رغم افتراضيّة الوجود.

ملاحظة لغويّة: "قسمت" ظهر البعير بمعنى كسرته إلى قسمين. 

عن مجلة الثقافة العربية أزمان هاشم

مجلة الثقافة العربية - مجلة أدبية -شاملة - - نهتم بكافة النصوص الأدبية سواء كانت شعر أو نثر أو قصة أو مقال إلخ -- نمد إيدينا لنشر جمال اللغة العربية لغة الضاد ومساعدة المواهب الأدبية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبادة الفيشاوي
»
السابق
رسالة أقدم
«
التالي
رسالة أحدث
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد

close
Banner iklan disini