الليلة قارس بردُها، كانون الثاني هلَّ بصرّه وقرّه، السماء ملبدة سوداء وهزيم رعد بعيد ينذران بهطول شديد،أُحكم غطاء رأسي وأتلثم بكوفيتي ، أضم يداي وأنفث فيهما بعض من دفء أنَفاسي..الصمت يخيم على الشوارع ،إلا من نباح كلاب ضالة، وصرير الجداجد..أحث الخطو نحو بيتي الدافئ، يقتادني الشوق إليه رغم العتمة التي لا تكاد تبددها عواميد النور القديمة ..رجلي لا تخطئ الطريق فهنا كبرت وترعرعت..لقد شغلتني عنه دوامة الحياة فكان غيابي ليوم وليلة...
في مدخل حينا، سرادق عزاء كبير نُصب،وقفت لأسأل غلام: من المتوفى يا ترى ؟
_ محمد عمران
*محمد عمران؟!
_أجل .. محمد عمران ابن الشيخ حسان.
العزاء واجب إذن..ودلفت إلى خيمة تزينها عشرات الأكاليل من الزهر والورد صور الشهيد..المعزون جالسون في صفوف منمقة منتظمة..الأحاديث الدائرة خافتة كطنين نحل يطغى على خرير صب القهوة في الاكواب..سلمت وسكنت إلى كرسي خالٍ،أقلب الوجوه،أستنكر نفسي،فلا أحد يبكي هنا سواي، قهوتي بطعم الدمع ، سحبت خطاي وخرجت استرجع نفسا كاد أن يقطع مني .. شعور بتفاهة الحياة ،وآخر بقيمتها،انتابتني نوبة قشعريرة، فلجأت إلى موقد يتلظى جمره قرب الباب ..وجدتها فرصة لأسأل شيخاً بجانبي يمرر سبحة بين اصابعه ويتمتم بأدعية :
* متى مات محمد يا عم؟
- صباح اليوم ياولدي، صلينا عليه الظهر وواريناه مثواه الأخير...ولا تقل مات بنيْ..
الشهداء عند ربهم أحياء يرزقون
ربت على كتفي بحنان، لما استشف حزني الشديد
*-كنت أود أن أرى وجهه ولو لمرة واحدة
-كيف تراه وقد وصلت إلينا بعض من أشلاءٍ لا وجه فيها.
ارتعدت فرائصي، وركل قلبي بين ضلوعي.. أخفيت ارتباكي الشديد ورحلت لا ألوي على شيء ...ولكن لم يغمض لي جفن ليلتها من هول ما سمعت.....
في يوم التالي عدت،أقحمت جسدي وسط زحام الوافدين،سلمت على الحاضرين ،تمتمت بكلمات مواساة عاجلة، وأنا خفيض الرأس مستغرق فى عدِّ خرزات مسبحتي،أضبط كوفيتي بين الفينة والأخرى خشية أن تسقط عن رأسي...
بجواري شاب ثلاثيني وسيم رفع ياقة سترته وضبط جلسته تحدث بفخر :
-الشهيد البطل محمد عمران صديقي الحميم
_أوكنت معه تناضل؟
*منذ زمن ونحن نحارب من أجل الوطن ،قام العدو بمطاردته إلى ان قنصوه بصاروخ من طائرة حربية رحمه الله كان نعم الشاب الطيب..
قلت:الحزن يأكلني على زوجته وأولاده
ترى من لهم غير الله من بعده ؟
_لا تحزن عليهم يا عم
زوجته صابرة محتسبة والحركة ستتكفل بكل مصاريفهم حتى يكبرون.
صمتي الذي طال جعله يستطرد
_-ألم تسمع أنه ابن حركة.؟ لقد أذيع هذا الخبر بشكل رسمي، بلادنا مقدسة والحق فيها لا يختبئ طويلا .
ولما رآني أترنح وأكلم نفسي واضرب كفا بكف قال لي : إطمئن ياعم
وزوجته أيضا وجدو لها زوج
ثم همس لي:أخوه صالح دق صدره للزواج بها، لكن أخاه الثاني أيضا ينافسه عليها ،هناك خلاف بينهما وسيحسمون الأمر عما قريب..
أحسست بالغثيان فاستأذنت في الانصرف
جذب ذراعي : اجلس،ألم تشتم رائحته
لن يفوتك، وصل الغداء..
نظرت الى طبق الأرز بالكركم واللحم الذي لا يختلف عندنا فرحه عن عزاءه
بلعته بلا طعم ولا أدرِ بأي شئ أصنفه....
يبدأ مهرجان عرس الشهيد في الساحة الكبيرة التي تتوسط الحي يأتى الجميع من كل حد وصوب،في اليوم الثالث، شخصيات مرموقة ،مسرح أضواء ومكبرات الصوت ،فقرات متنوعة قران يتلى ،كلمات تلقى ، اناشيد وطنية ،خطابات ،وزغرودة ام الشهيد تعانق سحاب السماء ،الهتافات تعلو،لا إله إلا الله ...الشهيد حبيب الله ...
مضى عليَّ الوقت كدهر، شيء ما زعزعني من الداخل كان بودي ان أصفق في نهاية المهرجان ..تحسست جسدي..رأسي ، أطرافي وهمست ..أما زلت جالس هنا؟ ، تقدمتُ الحشود،اخترقتُ الصفوف ،طلبت من أحدهم أن يوصلني للمسرح :
-هذا الشيخ يود إلقاء كلمة، رميت بعكازتي أمطت اللثام ونزعت كوفيتي وجلبابي
أمسكت بالمكبر و بصوت متحشرج قلت :
- لي بطاقة شخصية فقدتها فى مكان القصف،كنت أبحث عنها،عليها صورتي وإسمي.. محمد حسان عمران.