= = = =
إنه هو..لا يمكن أن أكون مخطئة.. مازال كما هو، نفس القوام النحيل يتدثر في معطف كحلي داكن، والذقن المختبئة في ياقة المعطف ومن حولها تتطاير أطراف الشال الرمادي.. خصلات الشعر تنزلق من تحت القبعة وقد داهمتها خطوط الشيب.. الخطوات الراكضة كأن ساقيه تهربان بعيداً عن بقية الجسد.. النظرة الدقيقة المصوّبة إلى الأمام دون أن تُعير انتباهاً لما يحدث في الخلف.. إنه هكذا دائماً، لا ينظر إلى الخلف أبداً.. إنه هو.
يخرج يده من جيب المعطف، يفركها باليد الأخرى، يقربهما من شفتيه وينفخ فيهما من زفير رئتيه الحار، تنبعث سحائب من البخار، تتكاثف في الهواء البارد، تشكل غيمة صغيرة تطير حول زجاج سيارتي العالقة في الزحام، أحاول اللحاق به، يعترضني صف سيارات طويل، تكبحني إشارة المرور الحمراء، عيناي تلاحقانه، وخفقاتي تتسارع حين بدا لي أنه يوشك على مغادرة الرصيف المجاور، تعتصرني خيبة عظيمة، هو يمضي الآن، يأخذ شارعاً جانبياً ويتوارى تحت أقواس البناية الكبيرة ثم يختفي. هكذا يختفي فجأة، كما في كل مرة. إنه هو.
لابد أن ألحق به، أن أقف أمامه وأسجل انتصار المصادفة العظيمة التي جمعتنا في هذا الصباح الشتوي، أن أقول له كل الكلمات التي فاتني أن أقولها، وأن أبثه كل الخفقات التي كاد الزمن أن يواريها.
أطفأت المحرك، جذبت حقيبتي اليدوية الصغيرة من المقعد الخلفي وهممت بالنزول لأركض وراءه، ولكن! ماذا لو.....؟! لا لا لا .. لا يمكن أن أكون مخطئة. إنه هو. يجب أن يكون هو. لن أخذل حلماً صغيراً أشرق هذا الصباح، أدرت مفتاح المحرك من جديد وتابعت طريقي في الزحام..