» » الخامسة- بقلم / محمد طيب رزيقه



يقبع بيتنا وراء تلة نطلق عليها إسم العرقوب, وراء بيتنا  و تلك التلة تمتد إلى الجنوب  سهول جرداء لا ينبت فيها إلا بعض شجيرات الحلفاء العليلة و نباتات شوكية سرعان ما يمتص الجفاف الحياة من عروقها و تذروها الرياح, في ذلك البيت الواقع على حدود النسيان و وسط عواء الريح  ولدت, مازالت صرختي الأولى تتردد بين جدران  البيت, أحببت تلك الصرخة الاولى, إنها الفعل الوحيد الحر الذي يُزين ماضيَ, ماعدا ذلك أنا مجرد شيء, كأي شيء  بلا عنوان بلا إسم , أحيانا أسند أذني إلى ثقب في الجدار و أصيخ السمع, أستنشق بعمق و إصرار رائحة التراب حتى يتسرب  عبق الماضي إلى ذاكرتي فتنتعش و تدر أصواتا و همهمات غامضة متشابكة, لكنني أميز منها بكاء أمي, ذلك البكاء الصامت المقموع المنفلت كأنه أنة طويلة مريرة تنفذ إلى عمق القلب و تفتته, " لماذا تبكين يا أمي؟ ", كنت أود أن أسألها, لكن لم أكن أعرف كيف أفعل ذاك, عرفت فيما بعد أنني سبب ذلك البكاء, كانت أمي تنتظر صبيا, لكن و يا لغبائي و رعونتي, بدلا عنه جئت أنا, لذلك لم أجد أحدا في إستقبالي, كإثم لفتني القابلة بخرق رثة بالية و دستني بصمت بجانب أمي المنهكة, من حينها آثرت الصمت, انزويت داخلي, ابتدعت طريقة للعيش لم يسبقني إليها أحد, كلما ضاق صدري أبحث عن ثقب في الجدار, أي ثقب , فأي ثقب في الجدار هو جرح تنز منه الحياة, و من خلاله نتسرب إلى دواخلنا, فأتوسده, أسلمه روحي وبدني, أظل على تلك الحال حتى تصلني فردة حذاء ترسلها أمي و هي تصر خ:
ــ لماذا تلتصقيين بالجدار, ألم أنهك عن هذا الفعل المشين؟.
ــ أريد أن أرتاح يا أمي.
ــ و ماذا فعلت لتتعبي, إذهبي و افعلي شيئا مفيدا.
ــ حاضر يا أمي.
كنت الخامسة بعد أربع بنات, ثم تحول ترتيبي من عدد الى إسم, تصر جدتي على مناداتي بالخامسة و لعلها هي من وصمني  بهذا العار, أو ربما هي تنتقم من أمي بتذكيرها بهول هذا العدد من الإناث, و توقظ فيها حنينا الى شوق يكاد ينطفئ.
ــ الخامسة, أين أنت أيتها اللعينة؟.
ــ أنا هنا ياجدتي ... ماذا تريدين؟.
 الخامسة.. الخامسة .. الخامسة.. لا شك أنني طعنة في قلب أمي , خنجر يغرس في ما تبقى من روحها المهزومة, أمي لا تتكلم كثيرا, و إن تحدثت تقتصد, توفر ذخيرتها من الكلمات إلى الليل، حين يهجم الظلام و الصمت, أحيانا و أنا أرقبها مساء تتهيأ لأستقبال الليل, ألمح  بقايا فرح على عينيها, فرح يومض  و ينطفئ كذبالة شمعة وسط عتمة الليل تقاوم الظلام, كم أحب أمي في تلك اللحظات, تنتابني رغبة جامحة لإحتضانها و تقبيل رأسها, لكنني كنت الخامسة,  إسمي و ترتيبي لا يسمحان لي حتى بالإقتراب منها, فأنا إثم, نجاسة, سوء, و رغم ذلك كنت أستمتع بتلك المساءات الكئيبة حينما  تحكم أمي إغلاق الباب, و تأوي إلى فراشها, حينها كنت أنسى ذاتي و أكتفي من وجودي بعيني فقط  لأسلطهما كمصباح كاشف حتى لا تفوتني ومضة الفرح, فأظل  أراقبها  و هي تتهيأ لتوديع يوم ينسل من حياتها غير عابئة به.

عن مجلة الثقافة العربية أزمان هاشم

مجلة الثقافة العربية - مجلة أدبية -شاملة - - نهتم بكافة النصوص الأدبية سواء كانت شعر أو نثر أو قصة أو مقال إلخ -- نمد إيدينا لنشر جمال اللغة العربية لغة الضاد ومساعدة المواهب الأدبية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبادة الفيشاوي
»
السابق
رسالة أقدم
«
التالي
رسالة أحدث
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد

close
Banner iklan disini