» » " ورنيش ".... بقلم /رعد الفندي





اعتاد أن يركن سيارته داخل الكراج الملاصق لوزارة الخارجية حيث مقر عمله، كان كثيراً ما يهتم بهندامه ؛ يعتبره مكملاً للشخصية ومتطلبات عمله الدبلوماسي ، كما أن مناخ البلد الحار وأجواءه المتربة في فصلي الصيف والخريف ؛يجعلانه دائم النظر نحو حذائه.
يذهب كعادته يوميا إلى باب الكراج الذي ينتشر فيه الباعة المتجولون ، و صباغو الأحذية ، ومنهم الطفل (علي) الذي لم يبلغ الحلم بعد ، يتيم الأب ، جميل الشكل رغم شحوب وجهه الأبيض الذي تميز بعينين بنيتين واسعتين ، غالباً ما يرتدي بنطلون كتان أسود طويل القياس ، وبلوزة بالية واسعة على جسده النحيف ، جعلاه يبدو أكبر سنا ، كان حلو اللسان ، كلما سأله الدبلوماسي عن أحواله ، يتجاهل أسئلته؛ كأنه يقول له أن حاله لا يعنيه شيئاً ، وعطفاً على براءته ؛ دائماً ما يحرص الدبلوماسي الذهاب إليه دون غيره ، حينها يجلس على كرسي حديدي صغير صدأ من دون أن يضع حذاءه على المحمل الخشبي ؛احتراما لطفولته ، واضعاً قدميه على خرقة من بقايا سجادة قديمة متهرئة حتى ينجز الصبي (علي) عمله ، وينتهي ذلك اللقاء اليومي بإعطائه مبلغاً يتجاوز أجرته عشر مرات ، لكن (علي) دائما ما يرفض ذلك وبمزاج عصبي مصراً على أخذ أجره المحدد لا غير..
ازدادت الثقة بينهما ، أصبح (علي) يسأل عن الدبلوماسي عند غيابه لسبب ما ، أو حينما يسافر هو الآخر خارج البلد لأيام طويلة لأجل عمله، كثيراً ما كان يحمل له هدية بسيطة يبتاعها من أسواق تلك الدول متوسلاً إليه بأخذها ، أصبحا صديقين حميمين ، وبدأ (علي) يرد على كل الأسئلة الفضولية بعفوية:
- سيدي لدي الله ووالدتي المريضة ، تعمل يومياً لجمع العلب المعدنية الفارغة من مجمعات القمامة ، تحصل من ذلك العمل على مبلغ زهيد جداً ، كما لدي أخوة وأخوات ، أحدهم أسمه (عمر) يكبرني بعدة سنين لكنه مريض باللويكميا منذ ست سنوات ، ولم نحصل على راتب تقاعدي لوالدي المفقود في الحرب الأخيرة .
غالباً ما يرتل لسانه؛ الحمد لله مستورين ، بعد أن يقلب يده اليمنى ، يقبلها ويضعها على جبينه بحركة سريعة :
- ولكن يا سيدي : إن كنت تريد مساعدتي حقا، لدي ملف أحمله في محملي الخشبي أطلب فيه شقة سكنية ؛ أسكن وعائلتي حالياً في غرفة خرِبة مصنوعة من مخلفات الصفيح والآجر ، لا تحمينا من برد الشتاء ولا حر الصيف !
أخذت أجوبته وطلباته مأخذاً في نفس الدبلوماسي ، إلى حزن عميق ؛ كان يخشى أن يخذل هذا الصبي الذي وضع ثقته الكاملة به ، حاول عدة مرات لكن البيروقراطية والفساد المستشري و اللصوصية وموت الضمير الحكومي حالت دون مساعدته عبر الدوائر الحكومية .
تمر الأيام ومعها تزداد الثقة بينهما ، أحبه الدبلوماسي كثيراً إلى درجة الأبوة ، ولهذا أخذ يفكر بالتخطيط لانتشاله هو وعائلته من هذا الفقر والمرض والجهل المدقع.
في أحد الأيام اكتشف أنه يضع كراساً داخل محمله يقرأ فيه خارج أوقات فراغ عمله :
- أنا تلميذ في الصف الثالث ابتدائي ، تأخرت عن أقراني بسبب العوز والحروب التي لم تتوقف ، أذهب إلى مدرستي مع محملي الخشبي كل يوم بعد منتصف الظهيرة.
ذلك الأمر زاد الدبلوماسي إصراراً ورأفة لشخصه ، وتخطيطاً على وجوب مساعدته وإنقاذه......
تحدث مع زوجته تلك الليلة ، وما أستجد في أحوال ذلك الصبي وكانت كثيراً ما تردد :
- الحمد لله على أحوالنا ، لا يعلم قيمة العافية والأمان إلاّ من فقدها ...
لكنها تحدثت هذه المرة بسرعة و غبطة ، مقترحةً عليه أن يعطي عائلة (علي) بشكل مؤقت البناية الملحقة بدارهما الفخم في حي الدبلوماسيين ، وكانا قد قررا مسبقاً منحها لأبنهما البكر عند زواجه بعد تخرجه من الكلية خلال الأربع سنوات القادمة خصوصاً وإنها فارغة تماماً.
تفجرت الفرحة في كل خلية في جسم الدبلوماسي ، معاتباً نفسه ، كيف له أن ينسى ذلك ؟ أخذ يعد الثوان حتى حلول الصباح ؛لينشر السرور في قلب هذا الطفل الذي أصبح جزءاً منه.
توجه في صبيحة اليوم التالي صوب عمله قبل موعد وقت خروجه المعتاد من دون أن يفطر ، كان كلّ شيء يسير على ما يرام و بمزاج رائق ، جعله يناغم صوت فيروز بصوته الرخيم ، يتراءى له (علي) يقفز بين يديه معانقاً إياه حال سماعه خبر الدار ، لكن فجأة لاحت في ذهنه أسئلة جمة لم تخطر على باله من قبل ، قادته إلى عاصفة من الأفكار والهموم ، ملأت أغوار رأسه صخباً وإعتراكاً مع طعم الغبطة التي بانت على محياه قبل ثوان معدودة :
- ماذا عن أخيه (عمر) المريض باللوكيميا وأمه المتعبة وحياتهم البائسة ، الخالية حتى من لقمة عيش ؟ كما أنهم لا يملكون أيَّ أثاث سوى بعض الكراكيب و أفرشة ملوثة ، هي عائلة في ضنك تحتاج الكثير ، نعم الكثير ؛ يتطلب تأمين ذلك مبالغ ليست قليلة ، لا يستطيع توفيرها لهم وحده ، إذن المعضلة ليست السكن بحدّ ذاتها ، كل تلك الأسئلة لم تزعجه بقدر ما داهم ذهنه سؤالٌ آخر ؛ وهل سيبقى (علي) صباغاً للأحذية ، خصوصاً انه سيسكن معه في منطقة راقية ، وماذا عن مدرسته ؟ و هل من اللائق أن يخرج معهم سوياً من باب البيت الوحيد ، (علي) بمحمله الخشبي ، وأمه وهي تحمل أكياس ملوثة ببقايا القمامة ؟
كل تلك الأسئلة المخبـأة في أعماقه عكرت نشوة فرحته إلى حد كبير ، وكأنه وقع في ورطة عظيمة ، غدت لديه قناعة ؛ من الصعب إيجاد حلول ناجعة على كل تلك الأسئلة بسهولة، وبات التوجس عن تنفيذ هذا الأمر يقلب الكفة ، ربما سيركن إلى الصمت والتريث عن إخبار الصبي في الوقت الحاضر .
وبينما هو على تلك الحال ، سمع انفجاراً هائلاً وهو شيء ليس بالجديد في بغداد ، أخرجه ذلك الأمر من دهاليز صمته و حيرته ، بان الإرباك والفوضى واضحاً على السابلة وسواق السيارات ، اتخذ بعضهم طرق أخرى ، وصوت عجلات الإسعاف بات صارخاً بنعيقها ، والطرق المؤدية نحو عمله أمست مغلقةً ، مزدحمةً .
قرر العودة إلى منزله ، رن هاتفه الخلوي بصورة زوجته ، وعندما هاتفها ، كانت مرعوبة ، مستفسرة عن حاله ، أخذت تصرخ وتوضح له بارتباك أن عجلة مفخخة انفجرت قرب مقر عمله ، هذا ما كان واضحاً عبر قنوات الأنباء ، وعلى الرغم من ارتباكه الشديد ، وقبضه على مقود العجلة بقوة والاستدارة نحو منعطف العودة إلى داره هرباً من محل الحادث ، إلاّ أنه توقف فجأة ، ضاغطاً على الدواسة بشدة ، حيث أطلقت إطارات عجلته صريخاً عالياً .
بادئ الأمر لم يدرك كنه هذا التصرف ؟ لكنه أحسَ بأنّه اقترف ذنباً ليس عليه ارتكابه ، ومن المؤكد لن يستطع نسيان وجهه ، كأن صورته طبعت على كل الأشياء التي من حوله ،وطفق يصرخ صراخاً شديداً ، كيف عليه الهروب بعيداً عن (علي)! ارتعدت فرائصه ، أخذ يرتجف كالسعفة في ريح خريف مترب ، متناسياً كل زملاء عمله ، جميع أصدقائه ، إلاّ هذا الصبي ، ترجل من سيارته بعد أن ركنها بجانب الرصيف ، ولى حثيثاً نحو مقر عمله ، ورئتاه تختنقان بقطران دخان السجاير ، أطلق صرخةً أخرى ، لكنَّ صراخه بات متحشرجاً بين فكيه:
- ولدي (علي) ، ولدي (علي) ، أين أنت ؟
وصل بإعجوبة بعد أن خارت قواه بأنفاس ممسوكة إلى مفرزة شرطة تطوق المكان المنكوب ، ولصياحه وانتحابه ، وشخصيته الوظيفية ؛ سمحوا له بالدخول إلى موقع الحادث .
كان المنظر مخيفاً إلى حد كبير ، قدماه تخطوان ببطء ويداه تتحسسان جوانبه من أثر الدخان الكثيف ، لم يكن على مدى بصره أي شيء يوحي بالحياة ، توقف ساكناً بعينين مضطربتين لا تفارقان الأرض وسط برك من الدماء هنا وهناك ، يمسك بركبتي ساقيه المتثاقلتين ، منحنياً يتنفس شهيقاً وزفيراً قوياً ؛ بعد أن أحس بخفقان ثقيل ، كاد أن يشق صدره ، في الوقت ذاته تجمع أناس كثيرون من الشرطة والمسعفين ورجال الإطفاء ، حينها اختلطت الأصوات والزعيق ، على الرغم من ذلك لم يشعر بهم ، ولم يطل تسمّره كثيراً ، تسلل إلى موقع (علي) الذي اعتاد الجلوس فيه ، استغل قلة المسعفين في تلك الجهة بالذات ، وعيناه تقودانه بين الثغرات التي ينقشع عنها الدخان وتمنى لو تكونا منفصلتين عن جسده المتهالك، رغبة بلهفة العثور عليه وإنقاذه .
بحث عنه بين الجثث المتفحمة و الأجساد المكلومة وهو يتفحص جسداً تلو الآخر من تلك الأجساد التي انتشلها المسعفون للتو ، لم يرَ أيّة دلالات تشبه جسد الصبي بالحجم والشكل ، لكن الصدمة التي صعقته وأنهكت قواه رؤيته بقع دم تغطي بقايا السجادة المتهرئة خاصته ، وقبل أن ينهار من هول هذا المنظر ، سمع سعال مكتوم يصدر من صوت رجل مختنق ، حدق ملياً نحو مصدره فإذا هو ذلك العجوز بائع الصحف ، الذي كان محله المعتاد يلاصق موقع (علي) ، مصاباً بجروح بليغة ، وقد صبغت الدماء جسده وشعره الأشيب الكثيف حتى الصدغين ، كان جالساً على كرسيه المتهالك بثبات كما يراه كل مرة وأمامه محمله المعبأ بالصحف اليومية والمجلات والكتب القديمة ، لم تفارق عصاه يديه وظلَّت نابتةً كعود الخيزران ، صامدة مثل عوده بالرغم من كبر سنه ، تفحصه الدبلوماسي من كلّ اتجاه ، أصابه المنظر بفزعٍ مميت ، حاول رفع جبهة رأسه الضخم المنتصب على قبضتي يديه التي أحكمت برأس العصا بقوة معاً، رفع الشيخ رأسه بصعوبة ، وكأنه أفاق من غيبوبة ، اندفعت يداه بلا شعور نحو تفاصيل جسمه ، يتحسسه عضواً تلو الآخر ، وكلّ مرة ينظر نحو راحة كفيه بعد أن اخذ نجيع الدم يصبغهما ، أراد النهوض بظهر مستقيم ، لكنه شعر بالدوار ، وكاد أن يتهاوى أرضاً لولا وصول المسعفين ومساعدة الدبلوماسي الذين تلقفوه في الوقت المناسب ليطرحوه على النقالة ، حملق نحو الدبلوماسي بعينيه الكابيتين نصف المغمضتين من أثر الدم المتجمد ، وقبل أن ينبس لسانه بأية حرف، اغرورقت عينيه بالدموع لكنها غابت بين حفر أخاديده وشعر لحيته الكث، همس في أذني الدبلوماسي ،خرج صوته بتؤدة وتمهل:
-  سيدي ، أعرف عمن تبحث ! لا تقلق ، أنا أبكي كلَّ أولئك الناس الذين سقطوا ، لكن ؛ اطمئن لم يحضر الصبي إلى العمل هذا اليوم ؛ لقد أخبروني أن أخيه الكبير (عمر) حالته الصحية قد ساءت جدا ، إنهما كالجسد الواحد ، ربما سيغيب عدة أيام عن عمله ، نعم لا تقلق هو بخير ، لكن أرجوك اعتني به وبعائلته ، لا تصبغ الأمور بالورنيش كما فعل زملائك من قبل مع الصبي بوعود كاذبة ، انه بات يثق بك كثيراً من دون غيرك ....
خرج الدبلوماسي من مكان الحدث سريعاً ، تطير به أجنحة البهجة والارتياح ، خر ساجداً على الرصيف بادئ الأمر ، أجهش بالبكاء لوقت ليس بالقصير ، ما لبث أن نهض ، يعاوده السكون والراحة كما كان في الصباح ، مضى صوب سيارته ، انتشل سيجارة من جيب بنطاله المتسخ ، أخذ يدخنها بنشوة ، لكن ما لبث إلاّ قليلاً ، شعر بشيء ما جفل في أعماق ذهنه فجأة وكأنّه نهض من سبات عميق، وقد فُتق نسيج ارتياحه ؛ عشرات من الأسئلة عادت تشج رأسه ثانية ، أخذت تنمو و تنبت وتكبر كسيقان قصب البردي بسرعة كبيرة :
-  يا ترى : هل سيبقى الصبي في عمله هذا ، وأمه تجمع العلب المعدنية من القمامة ، وأيّة مدرسة سيرتادها هو وأخوته ، ومن أي باب سيخرجون ، أنا لم أسأله عن معتقده ، دعك من هذا السؤال ؛ هو طفل صغير ، لكن ماذا عن معتقد أبيه وإن مات ، كيف عليّ أن أنسي هذا السؤال ، أضف إلى ذلك أنهم يحتاجون الكثير من الأموال ، ماذا سيقول عني جيراني في حي الدبلوماسيين ........... ؟
رعد الفندي
بغداد
19 آب 2009

عن مجلة الثقافة العربية أزمان هاشم

مجلة الثقافة العربية - مجلة أدبية -شاملة - - نهتم بكافة النصوص الأدبية سواء كانت شعر أو نثر أو قصة أو مقال إلخ -- نمد إيدينا لنشر جمال اللغة العربية لغة الضاد ومساعدة المواهب الأدبية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبادة الفيشاوي
»
السابق
رسالة أقدم
«
التالي
رسالة أحدث
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد

close
Banner iklan disini