القصيدة :
مِزَق
عليكَ أنا كبيرٌ
تُهتَ فِيّا
صغيرٌ أيُّها المنفى علَيّا
ومسدودٌ طريقُكَ
سوفَ تبقى
مليئا ً بي
وتبقى عُنصُريّا
أنا نصفان
ماتَ النّصفُ
كيلا
يعيشَ النّصفُ
محروماً شقيّا
أنا كفّان
إن قُطِعَت يميني
شمالي تحملُ الرّاياتِ فَيّا
أنا ياأيّها المنفى جميلٌ
أعيشُ برغم قُبحكَ يوسُفيّا
موزّعةٌ أنايَ
هدىً وعمقاً
وتبقى في ازدحامك جاهليّا
هُنا ما زال يسألُها
تَمَنّي
تقولُ : أبي
أريدُ كُليبَ حيّا
وجسّاسٌ هناك
يقيمُ عُرساً
دماً
لم يُبقِ خيلاً تغلبيّا
جذوعُ النّخلِ هزّتها
ولكن
أبَت أن تُسقِطَ الرُطب الجنيّا
فقالوا : يا دمشقُ هَرِمتِ جوعاً
فقالت : لم يزل قلبي فتِيّا
فما أكلَت بنهديها حراماً
ولا استسقَت
بِ (هيتَ)
ولا بِ هَيّا
لها ربٌّ سيؤويها لحُصنٍ
ليبقى ياسمينُكِ مريميّا
#مهندحليمة
حاولت أن اقترب من عالم الشاعر "مهند حليمة"
وكونه حساسا، إلى حد ما، فأرجو أن يتسع صدره لهذه المحاولة.
ولا أزعم أنني استطعت تفكيك البنية الخارجية والداخلية للنص، إذ يبقى عالم اللاشعور لدى الشاعر ملكا له وحده، ولا يمكن لأحد، مهما اوتي من أدوات نقدية أن يسبر تلك الأعماق.
وما يجعلك تسترسل في قراءة الأبيات تلك العاطفة المشبوبة، والتي تمنح النص ألقا غير عادي. وأتذكر أن أحد الإخوة قد قال، إذا لم تخنّي الذاكرة، أنه ليس من عاطفة وراء ولادة قصيدة ما، بل هو تعبير عن دفقة شعورية لايجد الشاعر مندوحة من إبرازها.
ولنطل على الأبيات، ونستمتع بما حفلت به من معان ودلالات، ويستهلها الشاعر قائلا :
عليك أنا كبير
تهت فيا
وإذ يعترينا الفضول حول شخصية المقصود بكاف الخطاب، فيأتينا الجواب سريعا:
صغير أيها المنفى عليا
ونتساءل عن دلالة الضمير المنفصل، وهو في نظري أقوى في التأثير من الضمير المتصل، أو المستتر !! فلا نجد تفسيرا له سوى أنه يريد شعبه وأمته وهو أحد أفرادها المؤثرين.
إذا هناك المنفى، وهو المعادل المكاني لوطن تناهبته مخالب الأعداء.
ولو تمعنا قليلا في لفظ كبير نجدها ذات دلالة واضحة على إرادة من يمثلهم الشاعر " حليمة "
فلن يفت في عضدهم لاالمنفى، ولا التهجير، أو
التخويف.
وتأملت قوله:
مسدود طريقك
فرأيت فيها دلالة قوية على أن المنفى نفسه، على قبحه، كما وصفه الشاعر، عز على كثير من الناس الوصول إليه، ولم يستطع النفاذ من الوطن البائس سوى من اشترى حريته بالمال!!
ويلخص لنا الشاعر ماآل إليه حال الوطن، واقرأ
معي أبياته التي تستدر البكاء:
أنا نصفان
مات النصف
كيلا
يعيش النصف
محروما شقيا
فلقد تشربت أرض سوريا بالدماء حين سقط عشرات الألوف من أبنائها شهداء. ليعيش بقية الشعب في ظلال العدل والمساواة والحرية.
ويعلو صوت الشاعر وهو يؤكد إصرار الشعب على المضي قدما لتحقيق أهدافه.
أنا كفان
إن قطعت يميني
شمالي يحمل الرايات فيٌا
ولنتابع قراءة نص "مزق "
أنا أيها المنفى جميل
أعيش برغم قبحك يوسفيا
فإذا أدهشنا قوله هذا، ذهبنا عميقا، في ماوراء النص، نستجلي ماأراده الشاعر، وحالما نقع على لفظ " يوسفيا " يكاد يشرق المعنى جليا في
أذهاننا، ونسترجع قوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام ﴿قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه﴾ يوسف "٣٣"
فالمنفى معادل، معنويا، للسجن وإن كان أكبر،
واختياره، طواعية، أفضل من نير العبودية، واستلاب كرامة الإنسان .
ثم يستعرض أسباب التهجير، ونوعية من هاجروا، انظر إليه وهو يقول:
موزعة أناي هدى وعمقا
وتبقى في ازدحامك جاهليا
فحملة الرايات، ورافعو ألوية التغيير لإعادة كرامة السوريين التي امتهنت هم قلة إذا ماقورنوا بمن هاجروا فرارا من خوض حرب لاناقة لهم فيها ولا جمل، ومن يبحثون عن متع دنيوية زائلة أو عن فرص عمل تؤمن لهم مستقبلا يرونه مشرقا في بلاد المنافي.
ثم يلتقط الشاعر صورة حوارية تعكس وجها من أوجه المأساة التي ألمت بشعب سوريا العظيم:
هنا مازال يسألها
تَمنَّي
تقول: أبي
أريد كليب حيا
وجساس هناك
يقيم عرسا
دما
لم يبق خيلا تغلبيا
والموروث الموظف، هاهنا، هو دم كليب الذي قتل غيلة من جساس بن مرة في حرب البسوس
التي ظل أوارها مستعرا أربعين عاما، حتى تدخلت زعامات قبلية تحملت ديات جميع من قتلوا من بكر وتغلب.
فأمنية الفتاة الوحيدة أن يُثأر لأبيها من قاتله حتى تنطفئ النار المتأججة في صدرها !!
وأظهر "حليمة" بعدئذ نتائج الحرب عامة، فهي
لاتبقي ولاتذر.
وكنى بخيل تغلب عن فرسانها الذين ترجلوا عنها
صرعى، وعن امتداد نيران الحرب التي طالت ألسنتها الحرث والزراعة، فشجر النخيل ماعاد مثمرا حتى إذا أخذ الجوع منك مأخذه لم تجد رطبا جنيا تسكت به جوعك !!
فإذا انتهينا إلى المقطع الأخير، انتقل الشاعر من الترميز إلى التصريح وهو يخاطب دمشق:
فقالوا: يادمشق هرمت جوعا
فقالت: لم يزل قلبي فتيا
فالذين أرادوا تثبيط إرادة دمشق، وهي كناية عن أنحاء سورية كلها، قالوا لها أما يكفيك مانزل بأبنائك من التجويع المتعمد، فيكون ردها حاسما: طالما في عرق ينبض بالحياة، فلن تنالوا من إرادتي وصمودي!!
ويؤكد على إباء دمشق وعفتها، بتحوير المثل السائر قليلا ﴿تجوع الحرة، ولا تأكل بثدييها﴾
ثم يثني بمقالة امرأة العزيز حين قالت ليوسف عليه السلام : "هيت لك ". تحثه على إتيان المعصية، فدمشق لم تفعل ذلك.
ويختم الشاعر قصيدته بالتسليم إلى أن دمشق محفوظة في كنف الله تعالى، فهي أرض المحشر ، وقد أشار رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى أنها أرض مباركة، وكذلك اليمن!!
واعترف، ختاما، أنه من المؤكد أنني لم أحط بكل ماجاء في الأبيات من دلالات، وهذا شيء طبيعي، فمقالي يعكس وجهة نظر أحادية الجانب . ولا بد أن أشير إلى بعض ماتوقفت عنده مليا، وسجلت حوله الملاحظات الآتية:
١-فالمقطع الأول فيه حشو ظاهر، فالعبارة الثانية ﴿ صغير أيها المنفى عليا﴾ ليست إلا صدى للعبارة الأولى، وإن اختلفتا طباقا بين كبير وصغير.
٢- ثمة إسقاطات، ولنقل علامات مضيئة، كما في قوله: أنا كفان.. إن قطعت يميني.. شمالي تحمل الرايات فيا ، وماأجمل حرف الإلصاق في وهو يتصل بياء المتكلم، فالراية جزء لصيق به
ولا يمكن التفريط بها لدلالتها على الصمود.
وأقول، ربما، أراد منا تذكر مانزل بابن عم رسول الله عليه الصلاة والسلام في غزوة مؤتة
على ماأذكر، حين كان يحمل راية المسلمين، فقطعت يمينه التي تحمل الراية، فحملها بشماله
فلما قطعت هذه حملها بما تبقى من يديه حتى قتل، فحملها عنه صحابي آخر!!
٣- وظف الشاعر لفظ " عنصريا" توظيفا لاغنى عنه للإشارة إلى وجود العنصرية والطائفية في
الذين هجّروا إلى المنفى ؟؟!!
٤- أكثرَ الشعراء الشباب من إسقاط رموز ذات دلالة واضحة على قصة يوسف ومنها "جماله، وطرحه في البئر، ومراودة امرأة العزيز له بلفظ هيت لك، أو كما ورد في بعض القراءات هئت لك " فأصبح المعنى مكرورا ومستهجنا.
٥- استخدم الشاعر ﴿كيلا﴾ هكذا موصولة، وهذا خطأ إملائي، ف" كي" لاتتصل ب" لا " إلا إذا سبقت باللام، وانظر قوله تعالى:
﴿لكيلا تأسوا على مافاتكم ﴾ الحديد " ٢٣ "
وقوله عز وجل: ﴿فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على مافاتكم﴾ آل عمران " ١٥٣ "
وهذه القصيدة، وأمثالها عصية على الحصر، تبشر بجيل واعد من الشعراء قادر على مزاحمة أقرانه في الوطن العربي الكبير بالمناكب.
هذا، وألتمس العذر ممن يمر على مقالتي هذه،
فإن أخطأت فمن نفسي، وإن أصبت فمن فضل الله علي .