» » _ثرثرة جريحة_ بقلم _سارة


 

الأدخنة تتصاعد نحو السماء، بينما النيران تبتلع كل شيء.

كان يركض داخل ذلك المنزل المشؤوم، وهو يدوس على وهج السَّعِير. 

ماذا عساه أن يفعل؟ ، لا فكرة لديه! سوى غريزة البقاء التي تحثه على الهرب والنجاة.

ولكن أَيُعْقَلُ بأن يترك أخته ووالدته ويهرب! 



ذلك ما كان يفكر به، وهو يفقد ذراعه اليمنى التي أصبحت طعاما لذلك اللهيب. 

مازال يفكر، ويفكر! حتى قفز من النافذة التي تعلو الأرض بمسافة هائلة. 



لم يكن يعلم وقتها هل كان يهرب للنجاة، أم فقط أراد الخروج من أحضان النيران،أم عساه أراد الموت بطريقة أقل ألما...



ارتطم بالأرض تهشمت عظامه، كان ينظر إلى السماء الملوثة باللون الرمادي. 



للمرة الأولى في حياته، كره نفسه، وعلم كم أنهُ دنيء وجبان أيضاً. فقد وعيه، استيقظ بعد واحد وثلاثين  يوماً، كان قد فقد نصف وجهه وبعض أصابع يديه ،قدم مكسورة، وأسنانه أصبحت كأنها باقيا عظام. 



وقف في مكانه بصعوبة بالغة، أمسك عكازه مشى نحو  المرآة التي أمامه، نظر إليها مطولاً، حدق في عينيه، رأى بها نظرة قاتل، وجه مشوه بجريمة لا تغتفر. ابتسم، لقد شعر بالرضا  لأنه قد تأذى. شعر بالانتقام نحو نفسه، كان يهمس قائلاً: تستحق ذلك أَيُّهَا القذر، تستحق ذلك 



علم في ذلك اليوم أيضاً بأنهُ فقد عائلته، لقد أصبحوا رماداً، تحت تلك الأنقاض.



تم التحقيق معه، بعد الاشتباه به، بأنهُ السبب في افتعال الحريق، وذلك لوجود خمس جُثث أُخرى لم يتم التعرف عليها، ولم ينكر ذلك.  لقد قال بهدوء : قتلت عائلتي وأصدقاء أبي، أنا السبب في اشتعال المنزل.. 



 كان يبدو وكأنه مُجرم حقير، حتى أنهُ استفز جميع الحاضرين.  يُشتم ويلعن، وتم الحكم عليه بالسجن لمدة عشرون عاماً. 


ثم تم تخفيف الحكم وذلك لأنهُ قاصر وأيضاً لا دليل أو شاهد كما أنهُ قيل بأنهُ يعاني  بعض الأمراض النفسية والعقلية. 


ولكن في النهاية زُج به في زنزانة ضيقة تشبه التابوت، حاول جاهداً أن لا يختنق بها، وأن يسترق النظر من النافذة التي تعلو الحائط.  أراد أن يرى الحياة لمرة أخيرة، لكنه لم يكن يرى سوى الجانب الأخر من جدران السجن.


تلك الزنزانة اللعينة  تفقده صوابه، كان يهرب من البقاء وحيداً، أو الخلوة مع أفكاره. لذلك كان يثرثر دون توقف، ويصرخ قائلاً:

لقد استحقوا الموت، لعناء هم، نعم لعناء

البشر جميعهم حقيرون، سوف يفعلون 

أي شيء لتحقيق مطالبهم الخاصة، أي شيء سيقدم لهم لذة لحظية، سوف يجازفون من أجله بكل شيء دون تفكير. 


ضحك بشكل هستري:

أنا فعلت مثلهم أنا أيضاً حقير لقد أحرقت عائلتي لأجل الانتقام، آه أنا الأكثر  دناءة هُنا.


كان يزور طبيباً نفسي، إلا أن ذلك الطبيب قد سئم منه. في جلساته الأخيرة قال له الطبيب :

_ لقد قتلت عائلتك ومن معهم، وأنت الآن تحاكم وفق اعترافك ولكن لا يوجد أي دليل أو شاهد، فإن كنت لا تشعر بالندم لماذا قمت بالاعتراف،كانوا سيعتقدون بأنك ضحية معهم 


 أطلق قهقهة عالية وقال: 


_ لأنني أردت معاقبة نفسي، لم أصل بعد لهذا المستوى من الانحطاط 


ثم أكمل وهو ينظر للفراغ : أتعلم لقد كنت في السابق مثلك، مغفلاً وساذجاً، كنت أؤمن بالبشر، حتى إني كنت أعتقد بأنه لا وجود للبشر السيئين في هذا العالم، إنما هنالك ظروف وبيئة وتربية تغرس الشرور بداخلهم. أردت بشدة اقتلاع تلك البذرة منهم. لذلك حاولت جاهداً أن أريهم النور الذي بداخلهم، وأن أرشدهم. كنت شخص متفائلا لدرجة الاستفزاز وأيضاً أَخرق للغاية....

 حل الصمت بعد صدى تلك الكلمات حتى قال له الطبيب:_  ماذا عن الآن هل مازلت تحب البشروترشدهم!؟ 

برزت عيناه وأبتسم بسخرية قائلاً :_ أحب البشر! ! يا للهُراء البشر يفضلون أن يبقوا في سواد أنفسهم، من أجل الحصول على المتعة، أنهم  بُلهاء يبيعون إنسانيتهم وإخلاصهم لأجل المال والسلطة.

أنظر إلى الحيوانات كتب عليها العذاب تحت الشهوة وعدم الإدراك، البشر يكتبون لأنفسهم العذاب ذاته. 


كان وقتها الطبيب قد تعب من ذلك التناقض الشديد والكلمات البذيئة التي تسيل من فمه دون توقف ففقد أعصابه وصرخ في وجه :


_ لقد قتلت عائلتك وأصدقاء والدك بدم بارد وتحاول أن تجعل كل اللوم يقع على طبيعتك البشرية! أنت مجنون، لا تعد لي مجدداً لقد سئمت منك ومن الهُراء الذي تتفوه به. 


حينها نظر لعينيه وهو يشعر بلذة الانتصار وقال له:_ أرأيت أنت أيضاً لست شخصا جيدا كما تعتقد، لقد صرخت في وجه مريضك الآن ونعته بالجنون.. 

كانت تلك هي المرة الأخيرة التي يزور بها

 طبيباً.


قضى في تلك الزنزانة سنوات حكمه بأكملها التي امتصت طاقته وشبابه أيضاً. ذلك الفتى الذي لم يبلغ عامه الثامن عشر أصبح في الثامنة والثلاثين من عمره.نحيلاً للغاية، اشعث الشعر، القذارة تملأ جسده. كانت حروق وجه قد تمددت حتى أصبح من الصعب تمييز ملامحه.

حينما خرج من السجن ذهب وجلس في أول رصيف وقعت عينيه عليه، رصيفا ممتلأ بالمتشردين. 


جلس بجانبهم وأعتبر نفسه أصبح واحداً منهم، استلقى على الأرض الرطبة، بينما يستنشق الهواء الملوث برائحة النفايات. 


ينظر حوله ويتأمل المكان الممتلئ بالأوساخ، ومع ذلك كان يندهش بأن هنالك بشر يعيشون في تلك الشوارع وكأنهم جرذان! 


أحياناً حتى لا يصبح فريسة لأفكاره يعود للثرثرة حتى تؤلمه حنجرته كان يصرخ للمارة وهو يقول:


-أيها الجُهلاء المغفلين! تعتقدون بأنكم نبلاء وأنقياء والحقيقة أنكم أقذر منا، تنظرون لنا وكأننا مجرد أجساد بشرية وضعت حتى تتفاخروا بإعطائها بعض بقايا طعامكم. 


أَيُّهَا الساذجين أنتم الذين تحاولون إثبات أنفسكم بملئ أفواه المُتشردين ببعض الطعام والأموال أنتم أكثر الناس كذباً وبلاهة. 


كان المارة قد سئموا من ذلك المتشرد المجنون فما عاد أحد يعبر أمامه. 

وهكذا فقد قوت يومه وبقي الجوع والإنهاك يتغذيان عليه. 

ومع شدة برودة الجو كان فقد طاقته تماماً. 

ومال جسده نحو الأرض حتى التصق بها، 


تلك كانت المرة الأولى منذُ عشرون عاماً التي يسلم نفسه بها للتفكير بعدما فقد قوته على المقاومة .


فبدأت الذكريات تنهمر عليه، وبدأ يستشعر يوم الحادثة، حين كتن عائدا إلى المنزل، وبحماس صبياني يقرأ نصه الذي شارك به في حفل المدرسة، نص عن فضيلة البشر 

كان يعيد قراءته ويتخيل نفسه وهو يلقي على والدته تلك الكلمات. 


ولكنه حينما عاد، وجد منزله قد اجتمع به مجموعة من السكرة، ووالده في سبات عميق بعدما تجرع الخمر طوال اليوم. والدته ملقية على الأرض غارقة في دماءها. لم يعلم في الحقيقة إن كانت ميتة أو حية. 

ولكن انتابه غضب عارم لم يشعر به من قبل. 

قام برمي جسده نحوهم ظن بأن الشجاعة والغضب كافيان لسحقهم ولكنه تلقى الضرب وألقي به بقوة في الهواء فاصطدم جسده بالحائط. 


لم يفهم وقتها، لماذا يحدث معه هذا! ما الذي فعله بهم! ، ولما يتلذذون برؤيته يُعاني وهو وذليل ،شعر بالخيانة من قبل الجنس البشري بأكمله. 


كانت عيناه تذرف الدموع، حتى رأى زُجاجة من البنزين، كانت والدته تستخدمها أحياناً في إشعال النار. زحف نحوها، أمسك بها وَبِالْقَدَّاحَةِ التي وضعت قربها. 


تصارعت نبضات قلبه، هل عساه يفعلها! ، هل يقتلهم! لم يرى أمامه خيار آخر سوى الإنصات للغضب الذي بداخله، أمسك بها وقام بفتحها ورميها عليهم ثم أشعل القداحة، وهكذا بدأ صخب النيران يعلو ويعلو ويلتهم كلما حوله..


أدرك في تلك اللحظة حينما سمع صرخاتهم بأنهُ لا عودة من فعلته هذه، لا عودة للحياة

لكنه فكر على الأقل بإنقاذ أخته ووالدته. 


فبدأ أولاً بالبحث عن أخته، ركض في أرجاء المنزل فتش عنها في كل مكان، كان يعلم بأنها كانت تختبئ بعيداً عن هؤلاء الحثالة، ولكن أين! 


وفي عملية بحث يائسة احترقت ذراعه وفقد أصابعه ونصف وجهه، حتى رأى ضوء الشمس المنبعث من النافذة. حينها قفز دون وعي منه...


توقف سيل الذكريات هُنا، وبدأ يبكي لأول مرة منذُ موت عائلته، تذكر قول الشرطة في المحكمة بأن هنالك شخص كان يختبئ بالخزانة. 


كان يعلم بأنها أُخته، من المؤكد انتظرته حتى اللحظة الأخيرة ذلك ما فكر به. 

حينها بدأ يتساءل قائلا بتعب شديد:

_هل كان هنالك خياراً آخر، هل كنت أستطيع إنقاذ أختي ووالدتي دون أن أقتلهم! ، لو أني لم أختر الإنصات لذلك الحقد الذي بداخلي، ولم أصبح هذا الإنسان، هل كان هنالك مستقبل آخر ينتظرني! 


جلس يبكي بحرقة وهو يشتم الجميع، حتى تلاشى بريق عينيه وغادر ذلك الجسد الهزيل... 


وحالما توقفت الشتائم أدرك الجميع بأنهُ قد مات، فتم التطوع بدفنه من قبل المتشردين. وكتب أحد منهم على قبره ستبقى صدى شتائمه حية تَصْرُخ في الأرجاء.


 


عن مجلة الثقافة العربية أزمان هاشم

مجلة الثقافة العربية - مجلة أدبية -شاملة - - نهتم بكافة النصوص الأدبية سواء كانت شعر أو نثر أو قصة أو مقال إلخ -- نمد إيدينا لنشر جمال اللغة العربية لغة الضاد ومساعدة المواهب الأدبية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبادة الفيشاوي
»
السابق
رسالة أقدم
«
التالي
رسالة أحدث
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد

close
Banner iklan disini