» » قراءة في القصة القصيرة أطال الله عمرك/بقلم الناقد/محسن الطوخي للأديبة السورية/ ميسون السعدي



الشيخوخة مرحلة طبيعية من مراحل العمر, إما أن يعبرها الشخص بأمان. أو يتعثر في دروبها, ومسالكها. والنص الجميل لميسون السعدي يقدم نموذجاً للمسن الذي يخفق في التوافق مع تلك المرحلة العمرية. وهو  يكابد على مدار السرد ألماً مترتباً على واحدة من الظواهر الاجتماعية المرتبطة بتلك المرحلة من العمر. وهي ظاهرة أحسب أن معظم الدراسات النفسية المتعلقة بالشيخوخة قد غفلت عنها. وهي الأثر السلبي المترتب على المبالغة في إظهار مشاعر الشفقة من قبل الآخرين.

لدينا تجربة إنسانية بالغة الحساسية, والعذوبة في القصة . والقارىء يدرك أن التيمة الأساسية التى لعبت عليها الكاتبة هي الرفض, والتمرد. يبدو ذلك جلياً في إلحاح الراوي على تلك البقعة في ذهن الشخص المسن التي تنقبض وتبدي الاحتجاج عند أقل إشارة إلى ضعفه واحتياجه للمعاونة والرعاية .

ويمكن رصد مجموعتين من الأفعال, وردود الفعل يلقيان الضوء على جوانب الأزمة التى يمر بها الشخص.

أما مجموعة الأفعال فتصدر عن الوسط المحيط بالشخص ويمكن رصدها فى الآتي:

- حديث الشخص على الهاتف والذي اهتم  بالاستفسار عن صحة المسن, وانتظامه في تناول الدواء. واختتم المحادثة بالعبارة المحورية في النص " أطال الله عمرك " . 

- حديث الحفيد على الهاتف للمسن الذي يرعي نباتاته في الشرفة, والسؤال التقليدي : " هل أنت بخير ؟ " . 

- سلوك أحد المعارف الذي التقي بالمسن أثناء انتظاره للحفيد. والسؤال الذي يعكس القلق وانعدام الثقة : " هل أتيت وحدك؟ " .. ثم عبارة " ماشاء الله " . وكأن مجرد تواجد المسن وحده في الطريق يعد إنجازاً يستحق الإعجاب. ويضيف : " سأكلمك فيما بعد كي أطمئن عليك، " . ثم العبارة الخالدة : " أطال الله عمرك. 

- إصرار الحفيد على مصاحبة المسن في المشي بعد انتهاء اللقاء في المطعم . وكأنما يخشي مغبة تركه بمفرده . 

ومجموعة الأفعال السابقة تمارس بتلقائية من قبل المحيطين بالمسن باعتبارها مظهر من مظاهر الاهتمام , دون الانتباه إلى أنها تشكل في مجموعها, وبتواترها عبئا نفسياً على المسن بتأكيد مظاهر عجزه, وعدم أهليته للمحافظة حتى على سلامته الشخصية. 

وينتج عن تلك الممارسات مجموعة من ردود الفعل برعت الكاتبة في تضمينها بمهارة طبقاً لتنامي التطور في شخصية المسن, ولتشكل فيما بينها مجتمعة تبريراً منطقيا لمظاهر التمرد والرفض التى وسمت سلوكه في الخاتمة. 

 

نلاحظ أن الشخص المسن بدا في الاستهلال بمزاج رائق . فقد كان وجهه متألقاً , بعد أن نهض متكئاً على ركبتيه دون عصاه , مخاطباً إياها في سخرية : " ابق مكانك " . ثم توقف أمام مرآة المغسلة يرتب خصلات شعره مفتقداً اللون الرمادي الذي انسحب مفسحاً مكانه للبياض الخالص. قبل أن يشرع في تحضير قهوته. 

ثم يبدأ السرد في الإشارة إلى قطع الفيسفاء التى يتشكل منها في الخاتمة المزاج السىء الذي اعترى المسن , فنراه يتوقف عند عبارة الحفيد لصديقه: " ماهي مشاريعك للغد؟ " .. فينصرف عن التنصت للمحادثة, ويجهد للتركيز من جديد على صنع القهوة. بينما ينصرف ذهنه إلى فراغ حياته من الأهداف والمشاريع. وهو يلاحظ على غير العادة عجزه عن وضع ساق فوق الساق الأخرى كما كان يفعل من عشر سنين. هاهي دلائل العجز والخور تناوشه. وهو يصبح بالغ الحساسية إذ ينتبه إلى أقل إشارة من المحيطين به إلى مظاهر ذلك العجز. وهي إشارات تتبدي في سلوك الأشخاص في حرصهم على السؤال المتكرر عن صحته, وعن تناوله للدواء . ثم العبارة المحورية " أطال الله عمرك " . حتى السؤال العابر الذى يعد بين الشرقيين بمثابة افتتاحية للحوار " هل أنت بخير " .. يخلف عند المسن استياء , فيتساءل بينه وبين نفسه : " ولماذا لا أكون بخير؟ " . وهذا المزاج السىء يكاد يصل بالمسن إلى حافة الاكتئاب, فتصل حساسيته إلى الاستياء من سلوك الحفيد في إغلاق الباب بهدوء . فيتمتم ساخراً : يالرقة هذا الجيل. 

وكما برعت ميسون في التمهيد لعناصر الأزمة . كذلك تبدت براعتها في تأزيم الصراع الداخلي للمسن قبل الخاتمة. فنراه يتعرض لتيارين شعوريين متعاكسين , يتناوشانه, إذ يتصاعد أحدهما بمعنوياته ويتمثل في دعوته من قبل الحفيد لمعاونته في التفاهم مع السائح, فمجرد إحساسه بثمة دور لا يزال بإمكانه معاونة الآخرين به كفيل بمنحه شحنة إيجابية تعينه على التواؤم مع الواقع. أما الشعور السلبي فيقتحم المشهد متزامناً مع الشعور السابق , فالصديق الذي يمر به مصادفة لا يقتصد في كمية الشحنة السلبية التى صدرها إلى المسن , فهو يسأله : هل أتيت وحدك؟ .. ويضيف : هل تود مساعدة؟ .. ويوغل في الحرص والاهتمام : سأكلمك فيما بعد كي أطمئن عليك. ثم يوجه القاضية: " أطال الله عمرك " .. والملاحظ أن كل التعبيرات التي وردت على لسان الصديق هي من التعبيرات العادية, والشائعة على ألسنة الناس في مخاطية كبار السن , لكن النص الممتع يجعلنا ننظر إليها في إطار السياق النفسي للشخصية , فنكتشف كم هي محبطة, وموجعة لشخص بات في شك من جدوى بقائه حياً بلا دور, ولا قدرة, ولا أهلية له في نظر الآخرين سوى مايمثله من عبء. والقارىء يصدق بسهولة مشهد البريق الذي انطفأ في عيون الجد . وتلك شيمة الفن عندما يتوخى الصدق. يستطيع الفن المتميز بالصدق أن يكشف للقارىء خبيئة المشاهد التى يعبرها يومياَ بلا انتباه, ينفذ إلى عمق المشاعر الإنسانية التى طمرها الاعتياد. 

والخاتمة البارعة تتوج هذا الصراع في شكل سلوك ينبىء عن معاناة الشخصية لدرجة من درجات الاكتئاب. فتصرفات الشخصية تتفق مع دراسات علم النفس المتعلقة بمرحلة الشيخوخة. بما يكشف عن بذور الأزمة. إذ يتجلى منذ المشاهد المبكرة للقصة أن الرجل يعاني درجة من درجات رهاب الشيخوخة, والفزع من الموت. وتبدو مظاهر هذا الرهاب جلية في مشهد الختام, إذ يميل الرجل إلى الانعزال والوحدة, ويعمد إلى التدخين , ولا يأبه لأي مظهر من مظاهر الجمال في الحديقة, فقط ينتبه إلى عصفور هزيل, رمادي اللون . كأنما أتت به الكاتبة كمعادل موضوعي يكشف للقارىء رؤية الشخصية لنفسها . 

محسن الطوخي

____________ 

نص القصة 

أطال الله عمرك

اقتربت يده من عكاز تستند إلى حافة كرسيه، مسح بلطف عليها، توقفت أصابعه، وضع يديه فجأة على ركبتيه ثم انتصب واقفا بصعوبة دون أن يتكىء .

ابتسم هازئاً ناظراً لعكازه : ابقِ مكانكِ .

قبل أن يصل إلى مطبخه توقف عند مرآة المغسلة ، كان وجهه متألقاً، عبرت شفتيه بسمة . أعاد ترتيبَ خصلات شعر بيضاء قائلاً : حتى أنها ليست رمادية ، بيضاء تماما .

من مطبخه سمع حديث حفيده على الهاتف ...

أين سنذهب اليوم ؟ .

لا،.. ليس ككل يوم ،.. أرغبُ بشيء مختلف ..

نعم، نتمشى ساعة أو أكثر ثم نذهب كي نكمل يومنا ..

أنت .. ما هي مشاريعك للغد ؟ .

توقف عن متابعة المكالمة محاولا التركيز على صنع قهوته .

تذوق طعمها، أضاف لها ملعقة بن من علبة أخرى ثم غلاها على نار هادئة ...

أريد أن يستغرق صنع قهوتي كل هذا الصباح .. ماذا سأفعل غير هذا !؟ ..

كيف أطيل هذا !؟ . تذوق القليل منها ...

لا، لقد غلت تماما .. أنتهى صنع القهوة إذاً .

سكب فنجانا كبيرا من القهوة عائدا إلى غرفته ببطء .

جلس، حاول أن يضع رجلا فوق رجل كما كان يفعل من عشر سنين أو أكثر ، لم يستطع .

قلب صفحات كتاب بين يديه، هز رأسه ... القراءة لا تعني لي شيئا اليوم .

شخص يطلبه على الهاتف، ناوله حفيده سماعة الهاتف ...

نعم، أهلا ..

الحمدلله .. نعم صحتي جيدة ..

لا .. لست مريضا.. نعم أتناول أدويتي كل يوم ..

وأنت .. كيف صحتك ؟ ...

الحمدلله .. " أطال الله عمرك " قال المتحدث .

أنتهت سريعا المكالمة ، أعطى السماعة لحفيده بينما هو واقف يرسل رسالة على جواله خلال انتظاره .

هز رأسه قائلا : أليس لديك وقت كاف كل النهار !؟ ..

أجلس واكتب ما تريد .

هناك أشياء كثيرة علي القيام بها قبل أن أخرج .. أستأذنك علي الذهاب الآن . قال حفيده .

أشياء كثيرة علي القيام بها ! .. وأنا أيضاً ... تمتم الجد مكرراً .

ألا استحق جملة مختلفة عن كيف صحتك ، " أطال الله عمرك " ...! ..

ما الفائدة من إطالة عمري !؟ .. لا تستوقفني جملة أخرى ، سأل نفسه ...

منذ متى هذه الجمل فقط تقال لي !؟ ..

من زمن بعيد .. شيء مقزز .

سمع حفيدَه يخرج مغلقاً الباب بهدوء خوفا من إزعاجه .

هز رأسه ... يالرقة هذا الجيل .. ومع هذا أكره كل شيء حولي ! .

سحب عكازه عن حافة الكرسي وخرج إلى الشرفة يتفقد النباتات التي غرسها .

كان باستطاعة أحدهم أن يسألني عنها عوضا عن جملة غبية " أطال الله عمرك " .

لماذا لا يكررونها للصغار في العمر ، كأننا نتقاسم الهواء معهم عنوة بسنين لا طائل منها . هل نحن الآن لاطائل منا !؟ .

من هذا الذي يرن لي على الجوال !؟ .. 

علي أن أضع نغمة له تناسب جملة " أطال الله عمرك " ! ..

يبدو هناك أمر هام ...

جدي أين أنت ؟ .

هنا على الشرفة .

ماذا تفعل ؟ ..

هل أنت مشغول ؟ .

أنا أعتني بنباتاتي فقط .

ماذا بك ؟ سأل الجد 

هل أنت بخير !؟ .

أنا بخير ياجدي، هل تستطيع أن تأتي معي إلى المطعم ؟ .. التقينا بسائح لطيف

أريدك أن تساعدنا بالتفاهم معه ، جدي .. أنت تتقن لغته تماما ..

هل بإمكانك مساعدتي ؟ .

بالتأكيد ...

جدي .. المطعم قريب ، نلتقي عند الدوار الرئيسي جانب التمثال ..

هل تكفيك نصف ساعة كي نلتقي !؟ . 

لا، ساعة أفضل .. علي إنهاء عملي وحلق ذقني .

عند الدوار بدت من بعيد هامته طويلة منتصبة ، قطعا الشارع معا مستغرقَين بحديث جدي .

جدي .. هل يستطيع أن يزورنا ؟ .

بعد أن أتعرف عليه أستطيع أن أجاوبك .

حسناً ...

خرج الأصدقاء الثلاثة يسبقهم الجد من المطعم .

انتظر قليلا بينما حفيده ينهي حديثه .

رآه من بعيد أحد معارفه ، اقترب لامساً كتفه ... الحمدلله أنك بخير .. الحمدلله .. هل أتيت وحدك !؟ .. ماشالله .. ماشالله .. هل تود مساعدة ؟ . 

تمتم بعيون انطفأ بريقها .. جئت وحدي .. لكني أنتظر حفيدي .. حفيدي هناك .. شكرا .

حسنا .. سأكلمك فيما بعد كي أطمئن عليك .. " أطال الله عمرك " .. إلى اللقاء .

تمتم ببطء إلى اللقاء ! .

جدي إلى أين سنذهب الآن !؟ .

أريد أن أمشي وحدي، اذهبْ حيث تريد ...

نمشي معا ، ليس لدي شيء .

أجاب بحزم : أريد أن أبقى وحدي .. سوف أمشي وحدي .

كيف وجدت السائح ؟ ، أليس لطيفا !؟ .

نتكلم فيما بعد .

حسنا أنا أنتظرك في المنزل .

مع خطواته البطيئة كانت أفكاره تتكاثف ، يعلنها قرارات حازمة وهو يخطو بتمهل ثم تضيع مع المارة .

هكذا إذا .. غريب أن أكون وحدي هذه الأيام .. سنرى ..

سنرى ماذا !؟ .. سأل نفسه .

جلس على مقعد حديقة ، أشعل سيجارة اشتراها من صبي يفرد سيجاراته على بسطة صغيرة .

بلع مزاح الصغير معه ... يا عم .. التدخين مضر ...

ها ... أنا أدخن كمراهق ، وعلى مايبدو يجب أن أزيل رائحة التبغ قبل دخولي للمنزل .

وضع رجلا فوق رجل ... أسند ظهره على المقعد نافثا حوله سحب التبغ معلنا عذوبة ما يفعل .

هكذا إذاً .. " الحمدلله أنك بخير " .. لماذا لا أكون بخير !؟ .. لا أعرف ! .

على طرف مقعده حطت عصفورة هزيلة رمادية اللون ...

تأملها للحظات ... بقيت ساكنة لا تأبه لشيء ولا تفعل شيئا .

أطفأ سيجارته راميا إياها ببقعة ماء أمامه . 

لن أحيا حياة هزيلة أبداً .. أبداً ..

نعم ، هذا قراري ، أعلنَ ذلك بكلمات واضحة .

وقف بهدوء مودعا حديقته والعصفورة الهزيلة ، ناظرا لكل شيء حوله .

عند الخطوة الأولى أعلن حزينا : هل قراري هذا خطوة نحو الموت أو الحياة !؟ .

الموت أو الحياة !!! .............




عن مجلة الثقافة العربية أزمان هاشم

مجلة الثقافة العربية - مجلة أدبية -شاملة - - نهتم بكافة النصوص الأدبية سواء كانت شعر أو نثر أو قصة أو مقال إلخ -- نمد إيدينا لنشر جمال اللغة العربية لغة الضاد ومساعدة المواهب الأدبية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبادة الفيشاوي
»
السابق
رسالة أقدم
«
التالي
رسالة أحدث
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد

close
Banner iklan disini